لم يضع حسن أوريد مؤلف «سيرة حمار» جنساً محدداً لكتابه. لم يدرجه تحت مسمى أدبي أو فكري أو فلسفي. ومَن يقرأ الخطوط العامة لسيرة الكاتب الذاتية، يجده أميل للفكر السياسي والعمل الدبلوماسي، مع توجهات لاحقة نحو التاريخ والترجمة والشعر والأدب.

لكن قراءة كتاب في الفانتازيا، مثل «سيرة حمار»، يجعل القارئ يدرجه ضمن رواية الواقعية السحرية بشكل تلقائي.

Ad

لا أعتقد أن «سيرة حمار» كتاب حول السياسة، كما أشار البعض، وإن لم يخلُ من إسقاطات وشذرات ناقدة لأنظمة الحُكم، وعلاقتها بالمحكومين. لكن يبقى للرواية خطوطها الأكثر تعبيراً عن أزمات الإنسان الأخلاقية والروحية ورحلته المضنية في البحث عن الذات.

يختار الكاتب لروايته زمناً طاعناً في القدم، يعود إلى ما قبل الميلاد. زمن سطوة الحضارة الرومانية، وامتدادها عبر العالم القديم، وصولاً إلى شمال إفريقيا وموريتانيا، وما حولها من مدن وحواضر كانت تتبادل المعارف والصلات، وتتأسس على ثقافات عريقة. وكأني بالكاتب يشير إلى أن مخاضات البحث عن الذات وإدراك صراعاتها، ثم فلسفة تلك المخاضات والصراعات، تظل البذرة الدالة على وعي الإنسان المبكر منذئذ، وليست وليدة الحضارة المتأخرة فقط.

أما اختيار مكان الأحداث، ليكون في الشمال الإفريقي، وما حوله، وبين الأمازيغ المختلطين بالرومان والوندال واليونان وغيرهم، ففيه إشارة إلى الحيوية التاريخية والجغرافية التي ميَّزت المنطقة منذ ما قبل الميلاد، وجعلتها محطة للتثاقف والتقارب الحضاري. ويستطيع القارئ أن يتلمَّس من خلال القراءة ما يحمله الكاتب من اعتزاز بأصوله الأمازيغية، ومدى عراقة هذه الأصول وجدارتها بالذكر والتأصيل.

تدور الرواية حول محنة «أذربال»، الشاب المتعلم الواعد الذي يُمسخ في هيأة حمار، ربما بسبب ارتكابه للمعصية، أو نتيجة مؤامرة من فتاة أحبته ولم تستطع الوصول إليه إلا بطريقة ملتوية دفعت هي وهو ثمنها غالياً. وتزداد المحنة وطأة حين يظل الحمار يحمل عقل وإحساس الإنسان، رغم هيأته الحيوانية.

تبدأ بعد ذلك رحلة المعاناة الطويلة، والتنقلات الممضة من حال إلى حال، يذوق خلالها الحمار أو «أذربال» معاني الذل والعذاب والألم النفسي والجسدي. رحلة عرف خلالها طينة البشر، وأخلاقهم، ومعتقداتهم الباطلة، عرف الخسيس والطيب، والمتكالب على المغانم، والزاهد المتصوف، والقاسي الفظ والشفوق. كان ببساطة حماراً متأملاً مفكراً محللاً لعلل الحياة والأحياء، فاكتسب من خلال هذه المعاناة المضنية دروساً وعبراً، واستطاع أن يصل في النهاية إلى حالة من التَطهُّر، من خلال عبوره هذه المنعطفات الحادة.

في الرواية أيضاً التفاتة مهمة إلى دور الحب في صنع هذا النموذج من الإنسان المتقلب بين قطبيه؛ المظلم والمشرق. فبسبب الحب المموَّه بالرذيلة مُسخ حماراً، وبفضل الحب المتوَّج بالنقاء استعاد إنسانيته الجسمانية والروحية.

في هيكل الرواية وسياقاتها ظهرت شخصية الكاتب المولع بالتاريخ. فهناك اهتمام بإيراد سمات العصر الثقافية من فلسفة وفكر وعلوم، واهتمام بإثبات أسماء المواقع والمدن، التي ربما لا وجود لها الآن إلا في الخرائط القديمة. اعتنى الكاتب كذلك بأن تتطابق أسماء الشخصيات مع واقع العصر الموغل في القدم، فجاءت أسماء، مثل: أذربال وهيباتا وأوكتافيو وثيوزيس وحاتبوت. أما اسم أسنوس، فهو الحمار باللاتينية والأمازيغية على السواء.

بقي أن نقول إن «سيرة حمار» ليست رواية هزلية، إنما تنتمي إلى الكوميديا السوداء، التي ظاهرها الهزل، وباطنها ينطوي على مرارة لاذعة تجعل الضحك أشبه بالبكاء.