كانت اللغة الرسمية التي تم استخدامها لوصف "انتفاضة 25 يناير"، بموازاة حلول ذكراها، قبل ثلاثة أيام في مصر، تشير إلى كونها "ثورة"، وتتحدث عن "الاحتفال" بمرور سبع سنوات على اندلاعها، فضلاً عن اعتبار اليوم نفسه "عيداً وطنياً" وعطلة رسمية، ومع ذلك فإن الميادين المصرية خلت تماماً من أي مظهر من مظاهر الاحتفال، كما أن التقييم السياسي والأخلاقي لهذا الحدث النادر والمهم في تاريخ المصريين كان محل انقسام حاد وعميق، سواء بين الجمهور أو بين النخب، في معظم ما جرى من نقاشات وجدل على هامش هذا الاحتفال المفترض.

تتوزع مجموعة من الأوصاف على ما جرى ابتداء من 25 يناير 2011 في مصر، وقاد إلى إسقاط حكم مبارك، وفوز "الإخوان" في الانتخابات التشريعية والبرلمانية، وإصدار دستور 2012، ومن بين تلك الأوصاف أنه "ثورة ملهمة"، أو "نكسة" و"مؤامرة"، وهو أمر مفهوم وربما يكون مقبولاً؛ إذ إن بعض الرموز والوقائع الحيوية في تاريخ الأمم تصبح موضوعاً لاختلاف بين مؤيد ومعارض ومحب وكاره، خصوصاً عندما تتعلق تلك الرموز والوقائع بأبعاد أيديولوجية، أو تؤثر أفعالها وتداعياتها في مصالح الجمهور والقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية تأثيراً متبايناً.

Ad

ورغم توالي الأحداث المهمة في الواقع المصري، خصوصاً مع تطورات استحقاق الانتخابات الرئاسية، فإن المجال العام انشغل بدرجة ملحوظة بالسجال حول "يناير"، ومحاولة توصيفها، وتعيين أثرها.

وضمن هذا السجال اجتهد كثيرون في طرح وجهات نظرهم والبرهنة على صحتها، وقد كانت الذرائع المستخدمة خلال النقاشات الحادة، ومقالات الصحف، وأحاديث الفضائيات والمنتديات، وتفاعلات "السوشيال ميديا"، تتعلق بالأحداث التي وقعت، أو القرارات التي اتخذت، أو التسريبات التي كُشفت، أو الانطباعات والصور الذهنية المستقرة.

ثمة معالجة أخرى بدت معتادة في هذا الصدد، وهي المعالجة التي انطلقت في تحليلها لـ"يناير" من استعراض تاريخ "الثورات والاحتجاجات الجماهيرية"، التي وقعت في مجتمعات ودول مختلفة، لاستخلاص عناصر مقارنة واستنباط دروس وعبر.

وفي كثير من الأحوال، فقد بدا أن الدوافع الأيديولوجية ظلت العامل الأهم في النظرة إلى "يناير" وتقييم أثرها، كما هيمن الحس الانطباعي كثيراً، وأدى دوراً أوسع مما يجب.

من جانبي، سأتفادى تكرار هذا السجال، لكن لأنه من المهم جداً معرفة السبب الذي أدى إلى حلول ذكرى "يناير" من دون احتفال في الشارع، وبقدر كبير من الانقسام والجدل الذي يصل إلى حد الصدام، ولأنه من الحيوي أيضاً تقييم هذا الحدث النادر وتحليل أثره، فإن أفضل طريقة لفعل ذلك يمكن أن تكون عبر توصيف المشهد الراهن بالقدر الذي يسهل توضيح مآلات "يناير"، بما يُمكننا من فهم ماهيتها وإدراك أثرها.

إن الانقسام الحاد الذي أشرنا إليه سابقاً يستفحل بشدة، ويسمم المجال العام، ويطرد كثيرين من الجديرين خارج حدود الممارسة السياسية، بسبب الآليات الحادة الشائعة ضمنه؛ ومنها التخوين، والسباب، وشن المعارك باستخدام الأدوات القانونية، واستخدام اللغة البذيئة.

وفي موازاة ذلك، يهيمن صوت واحد تقريباً على الآلة الإعلامية، بسبب تغيرات متسارعة في أنماط ملكية وسائل الإعلام الخاصة، قادت إلى مزيد من الاحتكار والتركز الضار للملكية، وفي ظل هيمنة هذا الصوت الواحد، فإن القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة مع النظام لا تجد وسيلة لإيصال الصوت، إلا من خلال "السوشيال ميديا"، أو الوسائط الوافدة من الخارج.

من بين عناصر توصيف المشهد الراهن أن ثلاثة مرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية المقبلة لم يتمكنوا لأسباب مختلفة من خوض النزال بعدما أعلنوا نيتهم الترشح، ويلقي مؤيدوهم بالمسؤولية في تعثر استكمال خطوات ترشحهم على النظام، ويتهمونه باستخدام وسائل غير مشروعة لإطاحتهم من السباق.

وقد وصل الوضع إلى حد خطير، عجزت خلاله الأحزاب السياسية، التي يفوق عددها المئة حزب، إضافة إلى الحركات والمنظمات والمؤسسات المختلفة عن إيجاد شخص يصلح كمرشح رئاسي، وهو الأمر الذي دعا النظام إلى تشجيع مرشح من حزب الوفد على خوض المنافسة، رغم أن هذا الحزب سبق أن أعلن تأييده للرئيس ودعا أعضاءه إلى التصويت له في الانتخابات.

يقودنا ذلك إلى ملمح ثالث يتعلق بالصورة السلبية للدولة المصرية في ملف الحريات وحقوق الإنسان؛ إذ تزايدت الانتقادات الدولية والمحلية لبعض الممارسات التي تمثل "انتهاكات للحقوق المدنية والسياسية"، بشكل واضح ومؤثر، مما ألقى بأعباء شديدة على الدولة وعزز قابليتها للضغوط والاستهدافات.

لم يزل الإخفاق واضحاً في حسم المواجهة مع الإرهاب في شمال سيناء، وفي حل مشكلة سد النهضة التي تؤرق المصريين وتهدد أمنهم. لقد حدث تقدم في عدد من المؤشرات الاقتصادية المهمة، وثمة تقارير دولية معتبرة تتحدث عن انتعاش متوقع للاقتصاد، لكن مع ذلك، فإن آثار تعويم العملة الذي جرى في 2016، ما زالت تضاعف معاناة شرائح واسعة من المصريين، ورغم الإنجازات العمرانية والتنموية المتتالية خلال السنوات الأربع الفائتة، فإن ثمار التقدم في المؤشرات لم تصل بعد إلى أغلب شرائح الجمهور، كما أن الديون تتزايد بدرجة مؤرقة.

لقد حظيت مصر بتعديلات دستورية تم إقرارها في مطلع عام 2014، وهي تعديلات جسدت إلى حد كبير روح "يناير" ومطالبها الرئيسة، كما ظهر جيل جديد خلال تلك الانتفاضة، راح يبلور شخصية وأسلوباً خصوصاً عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وبعضه يقدم رؤى تستند إلى مفاهيم ومعايير عالمية، ويطالب بنقلها إلى مصر.

تبدو الدولة راغبة في محاربة الفساد، ولم تعد هناك مظاهر فساد صارخة كتلك التي استفحلت في العقد الأخير من عهد مبارك، كما أن حالة الانفلات والفوضى التي سادت الشارع والمؤسسات غداة انتفاضة يناير لم تعد قائمة بطبيعة الحال، وأظهر النظام قدرة على استعادة الأمن وتثبيت الدولة بشكل ملموس.

لم تنجح "يناير" في تحقيق شعاراتها ومطالبها على أرض الواقع حتى هذه اللحظة، لكنها تركت ميراثاً وإلهاماً وأملاً قابلاً للتحقق، وسواء كان المصريون من مؤيدي "يناير" أو أعدائها، فإنهم مضطرون للانتظار سنوات أخرى حتى يستطيعوا الحكم عليها بشكل أكثر موضوعية.

* كاتب مصري