ماذا يصنع الفنان حين يشعر بإحباط ودوامة تأخذه إلى عالم يعج بأفكار لا تنتهي، وهو يبحث عن مخارج لمشاعره المتأججة في قرارها البعيد؟! يراها قريبة يكاد يلمسها وهي غير ذلك، دون أن يملك القدرة على عتقها من بين ضفتي صدفتها المغلقة على سرها في أحشائه، قبضة حديدية تمسك بتلابيب مشاعره تحبسها، وتذيبها وتحولها إلى خليط عديم الطعم جامد متكلس، إلا من ارتجاجات يتردد صداها في رماد الصمت دون أن يحقق مرادا لا نفعا.

الأماكن لا تحتاج أن تكون جميلة كي تثير الحس والمشاعر الدافئة في نفس الفنان، وكم من مكان مرت عليه السنون وخلفته ركاما وقعت عليه عين فنان فتحول بإبداعه إلى عمل فني احتل الصدارة في المتاحف أو صالونات أصحاب الذوق الرفيع. هو الفنان القادر على إضافة اللمسة الجميلة إلى الجمال ذاته، كما يمكنه إضافتها إلى ما دون ذلك بطريقة لا يمكن لغيره أن يقوم بها، وهي لا تتشابه مع فنان آخر حين يريد أن يضيف لمسة جمال بمذاق آخر.

Ad

حقيقة يعرفها جيدا كل الفنانين فلا يمكن أن تتطابق الصورة النهائية عند كل منهم في رسم المكان نفسه وبث مشاعر الحنين فيه خصوصا إن لم يكن المكان جميلا بالشكل المتعارف عليه، إلا أن الفنان بمقدوره أن يجعل منه مكانا تعشقه العين حين يتكشف لها مكنون جماله.

بعض الأماكن تفصلنا عنها مسافات زمنية بعيدة، ولكن صورتها تبقى ساكنة في ذكريات وصور سرعان ما تتجلى في لحظة ما فيتجدد العهد بها حين تبرز تفاصيلها وتستقبلها المشاعر بالابتسامة الغريبة، قد يكون أجملها أمنية أن تعود تلك اللحظة بكل تفاصيلها وفي المكان نفسه.

كنت في زيارة لجزيرة قبرص في منتصف الثمانينيات متجها إلى مدينة سياحية ولفت نظري جمال الطريق المتعرج بين الجبال التي استقر في وسطها موقع فيه رادار ضخم يحيط به عدد من الملاعب الرياضية ومجمعات خشبية في تناسق جميل، وبدا منظر البحر من بعيد، وتلألأت أمواجه تحت أشعة الشمس، فقلت للسائق: كم هو جميل هذا المكان!! قال: إنهم هم الذين صنعوا جماله وكان يقصد- القاعدة البريطانية- وأردف هذا المكان نمر به نحن أهل الجزيرة منذ سنوات طويلة لكننا لم نفكر في أن نجعله بهذا الجمال الذي تراه!

هذا يحدث مع الكثيرين الذين يألفون مكانا بعينة ويعيشون فيه ولا يفكرون في مغادرته، وإن كان غير ملائم للحياة الرغيدة إلا أن مشاعرهم ارتبطت وتآلفت معه، وكلما ابتعدوا عنه طوعا أو كرهاً أخذهم الحنين إليه بالعودة ولو لساعات عابرة تعيدهم إلى ذكريات ترافقهم مسيرة الحياة.

بعض الأشياء نحتفظ بها سنين وسنين دون أن نسأل عن السر في ذلك، رغم أننا لا نقوى على أن نلقيها بعيدا، بل ننقلها من مكان إلى آخر، ونتفقدها من فترة إلى أخرى بحنين غريب، فما السر في ذلك؟!

أكاد أجزم أن المثل القائل الذي سمعته مرارا من جدتي: "مـَن أحـَبَ عبداً عـَبـَدهُ، ومن أحب حجرا نقـَلهُ"، هو السر في ذلك.

وإني أحتفظ بحجر صغير غريب في ألوانه منذ أكثر من أربعين عاما، وقد حملته من مكان بعيد جدا في مدينة أسوان حيث قبر زوجة أغا خان أمير الطائفة الإسماعيلية في أعلى الهضبة التي تطل على النيل، ولا أدري سر الاحتفاظ بهذا الحجر الصغير الجميل حتى يومنا هذا، ولم أفكر مرة واحدة في التخلص منه.

ربما جمال ولحظة الفرح التي عشتها في ذاك المكان مازالت تسكن في وجداني وأنا برفقة أصدقاء مازلت أشتاق إليهم.

ربما، ولكن يبقى الوطن الأم بكل ما فيه هو أجمل الأماكن التي ترتاح لها النفس حين تشتد الغربة ولا نملك القدرة على العودة إليه وقت نشاء!

* كاتب فلسطيني- كندا