لم يحدث أبداً أن لازمتني الحيرة في أمر شخصية مثلما حدث لي مع "أبي حيان التوحيدي"، الذي أُعجبت به أشد الإعجاب رغم شخصيته التي يكتنفها الغموض المحير!

فحياة هذا "الفرد المتفرد في الإبداع"، كما وصفه ياقوت الحموي، لم تُمكن هذا الكم الكبير من الباحثين، الذين تناولوا بالدرس والبحث والتمحيص كل جزئية من مفردات حياته، من أن يُجزموا بأصوله، فيما إذا كانت فارسية أو أنه عربي، وليس هناك من حدد تاريخ ميلاده أو وفاته - في شيراز.

Ad

ورغم الإعجاب اللامتناهي في معطياته فإن الشك قد تسرب إلى نسبة بعض كتبه إليه.

أما عن معتقداته الدينية فقد تراوحت بين مختلف المذاهب، وكان أبرزها التشيع، وهناك من صنفه ضمن الزنادقة، بينما هو يعتبر نفسه من المتصوفة.

والحديث يطول عن ثقافته وفقره وثرائه، وكل هذا الذي يذكره من تناولوه من هذه التناقضات قد استخرجوه مما تركه من آثار في مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين مؤلفاً، ولم يصلنا منها إلا القليل، وهناك من المؤلفات التي كتبها ثم قام بحرقها.

أُبرز باختصار شديد أهم محطات تاريخ التوحيدي:

• يصعب التفصيل في مرحلة صباه وشبابه، فهي مرحلة مجهولة ولم يُشر هو إليها من بعيد أو قريب في كتاباته.

• في فترة شبابه حينما استوزر فيها المهلبي صارت له به علاقة لم تطل ثم طرده من مجلسه، وأمر بعدم السماح له بالدخول عليه.

• ذهب التوحيدي إلى الري، وأخذ يتردد على مجلس ابن العميد، وعندما توفي لم يجد ترحيباً من ابنه الوزير أبوالفتح، فعاد إلى بغداد محبطاً.

• ثم عاد إلى الري لمجلس الوزير الصاحب ابن عباد، الذي طلب إليه أن ينسخ له كتبه فمكث لسنوات ثم كتب: "ما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلثي مجلدة هذا الذي يستحسنه هذا الكلب حتى أعذره في دومي عن الامتناع؟!... أينسخ إنسان هذا القدر ويرجو بعدها أن يمتعه الله ببصره، أو ينفعه في بدنه؟!"... فعاد خائباً إلى بغداد بعد أن طرده الصاحب بن عباد شر طردة.

• وفي بغداد أخذ يتردد على مجلس الوزير ابن العارض، ثم مجلس أبي سلمان السجستاني.

• وفي كل هذه المجالس وغيرها كان التوحيدي المتحدث الذي يروي أحاديث وقصصاً وحكايات وتاريخاً، مستخدماً أسلوب الجاحظ فيما تركه بكتاباته، التي يُفترض فيها أن ما يقوله يستند إلى حقائق - والتوحيدي من المعجبين بالجاحظ - وبالطبع فهو يضيف إلى ما يروي ما يصادفه من أحداث عاصرها، ويعلق عليها بطريقته المشوقة، التي جعلها أقرب ما تكون إلى رواية شهرزاد في ألف ليلة وليلة، وخصوصاً في كتابه "الامتاع والمؤانسة".

***

• قرأت كتاب التوحيدي "المقابسات" أكثر من مرة لاحتوائه على الجوانب الفلسفية التي جعلته يستحق بكل جدارة لقب "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء".