بعد اعتداءات 11 سبتمبر سرعان ما اعترف جورج دبليو بوش بحاجته الى تعاون باكستان لاجتثاث معسكرات التدريب في أفغانستان، حيثُ خطّطت «القاعدة» الاعتداءات ضدّ أميركا، وأعلن الرئيس الباكستاني برويز مشرف آنذاك أنه شريك كامل في «الحرب على الإرهاب». وبعد بضع سنوات أعلن بوش باكستان حليفاً كبيراً للولايات المتحدة غير شريك في حلف شمال الأطلسي.

منذ 2002 تلقّت باكستان مساعدات اقتصادية وأمنية من الولايات المتحدة تجاوزت الـ33 مليار دولار مع توسيع لإطار التعاون الأمني مع أميركا، وكانت تلك الشراكة معقدة دوماً، فمصالح باكستان، وخصوصاً تلك التي يحدّدها الجيش الباكستاني، مختلفة عن مصالح الولايات المتحدة، فهي ترى في أفغانستان ضعيفة ومكبلة بالنزاعات فائدةً لا خطراً محدقاً. وبالتالي قدّمت باكستان ملاذاً آمناً لبعض المجموعات المتطرفة المستهدفة من الولايات المتحدة وهي لم تبذل على الأقلّ أي مجهودٍ لاجتثاث هذه المجموعات أو طردها من أراضيها، ولسنواتٍ قتلت طالبان وشبكة حقاني الأميركيين في أفغانستان لتنسحب بعد ذلك إلى قواعدها في باكستان.

Ad

تخبطت إدارتا بوش وأوباما في هذه المشكلة، وأدرك هؤلاء أهمية تبادل المعلومات الاستخباراتية مع باكستان وكانوا يعتمدون على المرافئ الباكستانية لدعم الجهود الأميركية العسكرية في أفغانستان، وكان هؤلاء في الوقت عينه مذعورين من دعم باكستان للحرّكات المتطرفة، وحاولت الإدارتان تغيير التصرف الباكستاني بالتهديد أحياناً وبالملاطفة طوراً، ولكن لم تثمر أيّ من الجهود في هذا المجال.

ولكن إدارة ترامب مختلفة تماماً، فهي تؤمن بسياسة العصا والجزرة الى حدّ بعيد، ففي خطاب أدلى به في شهر أغسطس من العام المنصرم أعلن الرئيس ترامب علناً أن «الولايات المتحدة لا تستطيع التزام الصمت حول توفير باكستان ملاذاً آمناً للمنظمات الإرهابية على غرار طالبان وغيرها والتي تشكل خطراً محدقاً بالمنطقة والعالم».

وقد أعلن ترامب أمام الكونغرس أن المساعدة العسكرية الأميركية ستكون رهن ملاحقة باكستان للشبكات الإرهابية على أراضيها، وللأسف لم يكن لهذا الإعلان نتيجة تذكر على أرض الواقع، فقد سمعت باكستان هذا النوع من التهديد والوعيد سابقاً، وغرّد الرئيس ترامب في بداية الشهر الحالي قائلاً: «لقد أعطت الولايات المتحدة بغباءٍ مطلق باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الخمس عشرة المنصرمة، ولم تحصل في المقابل إلا على الخداع والنفاق، وكأنّ باكستان تخال أنّ قادتنا أغبياء، لقد وفّرت باكستان الملاذ الآمن للإرهابيين الذين نطاردهم في أفغانستان، ولم تمدّ يد العون إلا لماماً، ولا مزيد من هذا التصرّف!». وبعد أيام قليلة من هذه التغريدة أعلنت الولايات المتحدة تعليقها للمساعدات العسكرية الى باكستان بشكلٍ كامل.

لم يمرّ وقتٌ طويل حتى ردّت باكستان بعنفٍ متّهمة الولايات المتحدة بالـ»خيانة»، وفيما حاول بعض خبراء الأمن وحتى بعض السياسيين- على غرار وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس- تهدئة الأوضاع، إلا أنّ العلاقة بين البلدين تتدهور بشكلٍ سريع، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه فستكون تلك نهاية الاستراتيجية الأميركية لأفغانستان، فالولايات المتحدة بحاجةٍ الى باكستان لنقل المعدات والتجهيزات العسكرية عبرها، كما أن باكستان تؤدي دوراً سياسياً فاعلاً في أفغانستان، ومن المستحيل الوصول الى حلّ سياسيّ للحرب الأفغانية المأساوية من دون مباركة باكستان، فقبل سنوات كان ذلك سبباً أساسياً للتغاضي عن دعم باكستان للحركات الإرهابية ولكن الظروف تغيّرت اليوم.

ومع أن لدى الولايات المتحدة مصالح أخلاقية ونفسية في أفغانستان، في المجال الأمني على الأقل، إلا أنّ انهيار العلاقة الأميركية الأفغانية ليس أمراً مهماً للغاية؛ لأنّ استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان قائمة على فرضية خاطئة.

وتقوم استراتيجية الولايات المتحدة ضدّ المتشددين على فرضيةٍ خاطئة، وهي أنّ الإرهابيين بحاجة الى ملاذٍ آمن للتخطيط لهجماتهم. حتى لو كان ذلك صحيحاً فإنّ الأمر لم يعد على هذا النحو، إذ نشهد اليوم لا مركزية في النشاط الإرهابي، ذلك أنّ قادة الحركات الإرهابية لم يعودوا بحاجةٍ لوجودهم في البقعة الجغرافية نفسها للتخطيط للهجمات المنشودة. فالتكنولوجيا التي يعتمد عليها هؤلاء الإرهابيون ليست بحاجةٍ الى أيّ تدريب، ذلك أنّ الإنترنت والتواصل العالمي عبثا باستراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب التي اعتمدتها منذ اعتداءات 11 سبتمبر.

ما الذي يعنيه إذاً انهيار العلاقات الأميركية الباكستانية هنا؟ كما تشير كريستين فير «على عكس ما قد يظنه البعض قد يجد ترامب الداعي لقطع المساعدات عن باكستان نفسه أمام نجاحٍ منقطع النظير في السياسة الخارجية»، فبينما كانت زيادة عديد الجنود الأميركيين في أفغانستان أثناء ولاية أوباما سبباً للحاجة الى المرافئ والطرقات الباكستانية، فإنّ السياسة الأميركية الحالية ستسمح بتحرير الولايات المتحدة من التبعية الى باكستان، وذلك بحصر دعم الوجود الأميركي جواً فحسب.

ما الذي قد يتغيّر في اللعبة في حال أعادت الولايات المتحدة تصويب فكرتها الخاطئة بشأن مدى أهمية أفغانستان للمصالح الأميركية، تلك الفكرة التي تعتقد أنّ طالبان إن ربحت بشكلٍ كامل أو جزئي في باكستان ستوفّر أرضيةً خصبة للقاعدة للتخطيط لاعتداءاتها ضدّ الولايات المتحدة؟ إن ابتعدت واشنطن عن تبعيتها لباكستان، فلا شكّ أنّ ذلك سيمنحها نفوذاً أكبر على البلدين معاً، وقد يؤدي الأمر الى بداية استراتيجيةٍ أميركية جديدة أكثر فعالية من تلك الموجودة حالياً.

لعقودٍ خلت كانت الولايات المتحدة في شراكةٍ استراتيجية مع باكستان بشكلٍ أو بآخر مع أنّ المصالح والأولويات المتباعدة بين البلدين عقّدت هذه العلاقة الى حدّ بعيد، ولكن بعد اليوم لم يعد أمراً كارثياً إن انهارت هذه العلاقة بشكلٍ كامل!

● ستيفن ميتز