يخشى كثيرون حربا محتملة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وتخلق التهديدات والعداوة المتبادلة بيئة بالغة الخطورة، وهي أشبه بصندوق بارود ينتظر شرارة تفجير.

ولكن توجد أسباب كثيرة تدعو إلى عدم القلق من حدوث ذلك، إذ توضح مقالة سابقة لمايكل هورويتز وإليزابيث سوندرز في «مونكي كيج» أسباب مساعدة العوامل الهيكلية كالجغرافيا والقدرات العسكرية في تشجيع السلام، وعلينا النظر أيضاً الى السجل التاريخي الذي يشير الى ندرة حدوث حروب استباقية، ثم إن أزمات أخرى لم تتسبب في اندلاع حروب.

Ad

وعلى الرغم من قوة صورة صندوق البارود فإن قلة من الحروب اندلعت بهذه الطريقة، كما يندر أن نشهد وقوع حادث بسيط مثل صدام حدودي يتصاعد أو اندلاع حرب استباقية لأن أحد الأطراف يعمد بدافع الخوف الى الهجوم خشية قيام الجانب الآخر بهجوم وشيك.

ومنذ نحو عشرين سنة كتبت أقول إنه منذ سنة 1816 لم تحدث حروب استباقية تقريباً، والأكثر من ذلك أن الكثير من الأزمات الدولية الخطيرة– مثل أزمة برلين في 1958– 1961 أو أزمة الصواريخ الكوبية في شهر أكتوبر 1962 - لم تتفاقم الى حرب استباقية.

وفي حادث الخوف من غزو عراقي جديد لدولة الكويت في سنة 1994 لم يتسبب ذلك في حدوث ضربة استباقية أميركية، كما أن اختبارات الصواريخ الصينية قبالة ساحل تايوان في سنة 1996 لم تطلق شرارة حرب، وينسحب هذا على العمليات الروسية الاستفزازية الجوية والبحرية التي جرت في الآونة الأخيرة ضد دول أخرى، والتي لم تتطور الى حرب استباقية.

الأسباب وراء ذلك

والسؤال هو: لماذا لم تحدث حروب استباقية؟ ببساطة لأن تلك الحروب ليست استباقية الى ذلك الحد، ويستذكر القادة في العادة ملاحظة أوتو فون بسمارك بأن مثل تلك الحروب ترقى الى الإقدام على الانتحار خوفاً من الموت، ثم لماذا تسبب الشيء الذي تأمل تماماً تفاديه؟ وهل أن الحرب الاستباقية ضد كوريا الشمالية ممكنة؟ ليس حقاً.

تشير النظرية الاستراتيجية الى أنك إذا كنت تظن حقاً أن العدو يوشك أن يقوم بهجوم وتظن حقاً أيضاً أن ثمة ميزة في توجيه ضربة أولى، فإن الحرب الاستباقية تصبح عندئذ أكثر جاذبية، ومن حسن الحظ أنه لا وجود لمثل هذه الظروف بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، والأكثر أهمية أن الجانبين لا يحتمل أن يقوما بضربة استباقية لأنهما لا يظنان حقاً أن الطرف الآخر يفكر في أن الخصم سيهاجم أولاً.

وفي الواقع فإن العلاقات الأميركية الكورية الشمالية أكثر استقراراً مما يظن معظم الناس، كما أن الجانبين يفهمان وجود خط مشرق عريض جداً يفصل بين السلوك المقبول والتصرف غير المقبول، وهو نوع الأعمال التي قد تبرر التصعيد الى حرب:

- عمل مقبول (إذا كان غير مرغوب فيه): الاختبارات الصاروخية والنووية من جانب كوريا الشمالية، ولعبة الحرب الأميركية– الكورية الجنوبية، والتجسس والأعمال العسكرية البسيطة ضد كوريا الجنوبية، والاشتباكات البحرية المحدودة والهجمات السبرانية والعقوبات الاقتصادية.

غير المقبول: الضربات الجوية الأميركية ضد كوريا الشمالية أو غزوها، أو هجمات صاروخية كورية شمالية ضد كوريا الجنوبية أو اليابان أو أي منطقة أميركية، ويعلم كل جانب أنه ما دام في الجانب المقبول من الخط فلن يقدم الطرف الآخر على عملية مكلفة في شن حرب.

وقد يعمد أحد الجانبين الى ضربة استباقية إذا ظن أن الطرف الآخر يوشك أن يتخذ عملاً غير مقبول، وعلى أي حال، يعلم كل طرف أن الخيارات غير المقبولة تظل بعيدة بالنسبة الى الجانب الآخر؛ مما يقلص من البواعث للقيام بضربة استباقية. وعلى سبيل المثال فقد فكرت الولايات المتحدة في مهاجمة المنشآت النووية الكورية الشمالية في سنة 1994– وهو عمل غير مقبول– ولكنها توصلت الى استنتاج أن مثل ذلك التصرف سيكون مكلفاً جداً، وهذه الخيارات أقل إغراء في الوقت الراهن لأن كوريا الشمالية قد تمتلك العشرات من الأسلحة النووية المخفية.

وبالنسبة الى كوريا الشمالية لا توفر الأعمال غير المقبولة مثل الهجمات على كوريا الجنوبية أو اليابان الكثير من الفوائد؛ لأنها لن تؤثر مطلقاً على القوة العسكرية الأميركية، ولن تسمح لبيونغ يانغ بغزو جارتها الجنوبية، وستستدعي طبعاً عملية انتقامية واسعة تفضي الى القضاء على نظام كيم جونغ أون.

جنون ترامب وكيم جونغ أون

ولكن بعض الخبراء يعارضون تلك الحسابات المنطقية ويقولون إنها لا تنطبق على الرئيس الكوري الشمالي والرئيس دونالد ترامب، ويعتبر هذا الخط من التفكير والجدال أن كوريا الشمالية دولة مارقة يقودها رجل يشعر بذعر قد يدفعه الى مهاجمة الآخر، وبالمثل قد يبدو ترامب تواقاً الى انتهاز فرصة من أجل إثبات هيمنته.

ولكن الى ماذا يشير السجل التاريخي؟ كوريا الشمالية دولة قاسية وحسنة التسليح، ولكنها مكشوفة السلوك وعقلانية حتى في ظل حكم رئيسها الحالي، وتطلق بيونغ يانغ طبعاً تهديدات مرعبة ولكن تصرفاتها تظل ضمن الفئة المقبولة، فطوال 64 سنة لم تقدم على مهاجمة جيرانها واقتصرت عملياتها العسكرية على اشتباكات طفيفة فقط.

ومن جهته لا يبدو الرئيس ترامب داعية حرب، وبعد عام على تسلمه السلطة في الولايات المتحدة كان الاستخدام الرئيس الوحيد للقوة الهجوم الصاروخي على سورية في شهر أبريل الماضي، والسؤال هو: هل يمكن للاستفزازات المتدنية المستوى أن تفضي الى حرب؟

الأنباء السيئة تقول إن الحوادث المتصاعدة تقع بصورة متكررة في شبه الجزيرة الكورية؛ مثل فرار جندي كوري شمالي في شهر ديسمبر 2017 وتسبب بحدوث إطلاق نار عبر المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين، وتشير الأنباء الجيدة الى أن تلك الحوادث تقع بصورة متكررة بحيث يتمكن الجانبان أيضاً من تفادي التصعيد والمواجهة.

وأخيراً يمكن القول إن تهديدات ترامب لن تدفع كوريا الشمالية الى التخلي عن برامجها الصاروخية أو النووية، ويمكن أن تلحق الضرر بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفاء مثل كوريا الجنوبية، وتقوي قبضة كيم جونغ أون على الحكم، لكن الحقيقة أن الجانبين لن يندفعا بعامل الخوف الى خوض حرب ولا يريدان ذلك حقاً.

* دان ريتر