هل الديمقراطية الغربية في تراجع وانحسار؟ وما مسار هذا الانكماش وما نهجه؟ وهل الدول التي تقبل الديمقراطية تتقبل كذلك الليبرالية؟ وماذا عن العالم العربي؟

المحلل السياسي اللبناني المقيم في دولة الإمارات "محمد قعبور" كتب أن من مفارقات أوروبا ودول الغرب أنها تشهد اليوم- عام 2005- انتشاراً في الأطراف وانحساراً في المركز! ويقول إنه في الوقت الذي تتمدد فيه رقعة الديمقراطية خارج حدود الديمقراطيات العريقة، باتجاه بلدان عاشت عهوداً مديدة في ظل نظم سياسية استبدادية فاسدة، وفي زمن تتفتح فيه شعوب العالم على الثقافة الليبرالية بمكوناتها المتعددة؛ كالمساواة والحريات الشخصية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور والبرلمان وفصل السلطات، "تضمر الديمقراطية في أميركا وبريطانيا وفرنسا واليابان، بل إن مسار الديمقراطية في هذه البلدان ينبئ بتحولها الى حكم أقلية".

Ad

(حوار العرب -4 - مارس 2005)

ورغم ما في هذا الرأي في اعتقاد معارضيه من شطط، فإن الأنظمة الديمقراطية صارت تعاني بالفعل مشاكل، وتلجأ بعض الدول الغربية الديمقراطية إلى تغييرات في القوانين، وتغلق بعض المجالات وغير ذلك، كما أصبحت مشاكل الهجرة والفوارق الطبقية والإرهاب ورغبة الأقليات في الانفصال والأزمات المالية تهدد الكثير من الحريات وأوجه الرفاهية التي اتصفت بها تلك الدول.

ويطرح "قعبور" عدة أسئلة حول مصير هذه الديمقراطية، وأسباب تراجعها، وانحدار نسب المشاركين في الانتخابات الأوروبية والغربية، ويتساءل: "ما الأسباب التي أدت إلى تبديد معظم العناصر الفاعلة في الديمقراطية الحقة في البلدان الصناعية المتقدمة؟ ولماذا أصبحت مؤسساتها الديمقراطية من برلمانات وسلطات تنفيذية ومحاكم تبدو كصروح تسكنها الأشباح؟ ولماذ يتلكأ الناخبون في تلك البلدان عن المشاركة النشطة في الانتخابات، حتى تدنت نسب الامتناع عن التصويت إلى مستويات لافتة ومثيرة للارتياب في سحر الديمقراطية الذي لا يقاوم؟".

ويرى في "العولمة" السبب الأول في تدهور الدولة والديمقراطية، فيجيب عن بعض الأسئلة بالقول: "الحقيقة أن العولمة وبخاصة في صياغتها الأميركية، قد انتزعت السلطة الفعلية من أيدي الديمقراطيات الغربية، وجيرتها لحساب رأس المال الذي جاوزت سلطته سيادة الدول بحكوماتها وبرلماناتها وقضائها وصحافتها، ولكي لا تكشف العولمة عن حقيقتها الافتراسية المتغولة فإنها تُبقي على القشرة الخارجية لمؤسسات الدول الديمقراطية، وبذلك تصبح البرلمانات المنتخبة أشبه بأيقونات ديمقراطية معلقة على جدران الحداثة السياسية، بينما تمارس السلطة الفعلية في برلمان افتراضي كوني الطابع قوامه ردهات الأسواق المالية العالمية ومكاتب مجالس إدارة الشركات المتعددة الجنسيات". ولا يخلو تحليل الباحث من انحياز سياسي وتوجه أيديولوجي وتحامل على الغرب الذي لا تزال الديمقراطية فيه قوية متمكنة، وكان باستطاعة الأميركيين مثلا أن يختاروا "هيلاري كلينتون" بدلا من "دونالد ترامب"، وأن يصوّت الإنكليز لعدم الانفصال عن أوروبا، كما أن هذه الرؤية السوداوية للعولمة والديمقراطية الغربية تشبه اعتبار الحرية في الغرب "حرية النخبة" والديمقراطية مجرد "ديمقراطية برجوازية" وغير ذلك. فثمة دول آسيوية كبرى وصغرى استفادت إلى أقصى حد من العولمة، وعلى رأسها الهند وسنغافورة، بينما جابه الكثير من مثقفي العالم العربي وقادة أحزابها العولمة بسيل من التهجم والتشكيك.

مثقفو العالم العربي والشرق الأوسط ربما كانوا من أعجز المفكرين إزاء ما تجابههم من تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية. وعلى امتداد سنوات طويلة لم ينجحوا حتى الآن في تطوير رؤية تنموية حقيقية ناجحة، ولم يقنعوا مجتمعاتهم بضرورة اللحاق بالعالم المتقدم، أو إجراء تغييرات جذرية على ثقافة هذه المجتمعات.

"المقيم" منهم في العالم العربي عزلته الأصولية الدينية والمناصب، وأفقدته الجرأة النقدية والمطالبة بالإصلاح والتحديث، "والمهاجر" المقيم في أوروبا والولايات المتحدة يتعاطف مع هذه الأصولية مهما كانت معادية للتحديث، لما يعتبره ضريبة "الحفاظ على الهوية"، والنتيجة أن الطرفين يتبنيان أحياناً مواقف معادية إزاء الغرب والديمقراطية والعولمة، ويتعاطفان حتى مع الدكتاتوريات العربية إن كانت "تحمي ظهر الأمة" من السعالي والغيلان التي ترعبهم!

من بين "الملاجئ الفكرية" اليوم الديمقراطية غير الليبرالية، أي استخدام الديمقراطية السياسية وحدها، مع تجاهل ضروريات نجاحها وتوابعها. وثمة اليوم حتى في أوروبا دول كالمجر وبولندا وتركيا وبعض دول آسياً، تحاول تجربة هذا النهج، فمنذ وصول حزب ياروسلاف كاتشينسكي في بولندا "القانون والعدالة"، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون "يان فيرنر مولر"، دأب الحزب على مهاجمة المحكمة الدستورية البولندية، وتسييس السلطة القضائية والخدمات المدنية، وشن الهجوم على التعددية الإعلامية، والنتيجة أن الضرر لا يلحق عادة بالليبرالية وحدها، بل بالديمقراطية ذاتها.

وكان مفهوم "الديمقراطية غير الليبرالية" الذي صاغه مفكر السياسة الخارجية الأميركي "فريد زكريا" في مقال له نشر عام 1997، محاولة منه لوصف الأنظمة التي تُجري انتخابات ولكنها لا تلتزم بسيادة القانون، وتطغى بانتظام على الضوابط والتوازنات الدستورية المعمول بها في أنظمتها السياسية.

ويقول "د. مولر" إنها ردة فعل أو فكرة متولدة عن خيبة الأمل والتحرر من الوهم بعد سقوط الشيوعية، عندما تصور الكثيرون أن الانتخابات والمؤسسات التي تمثل الناخبين أصبحت مترافقة إلى الأبد مع سيادة القانون.

(الجريدة، 27/ 1/ 2016).

الديمقراطية في حد ذاتها، يقول الدارسون لتجارب مختلفة، لم تعد كافية، بل يستلزم الأمر تعزيز "القيم الليبرالية" وبخاصة في مجال تطبيق القوانين ومكافحة الفساد وصيانة الحريات وحقوق النساء والأقليات، غير أن الليبرالية كاصطلاح لم يعد يعني الشيء نفسه في تصور كل الناس. ففي العديد من الدوائر، يلاحظ "مولر"، "أصبحت تستخدم لوصف الرأسمالية غير المقيدة، وحرية اختيار أنماط الحياة الشخصية، وقد بدأ "أردوغان" في تركيا من خلال التأكيد على الأخلاق الإسلامية التقليدية، تقديم نفسه باعتباره "ديمقراطيا محافظاً"، وفي كلمة مثيرة للجدل ألقاها رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان" في عام 2014، أعلن رغبته في خلق "دولة غير ليبرالية"، ومؤخرا أثناء أزمة اللاجئين، أعلن أوربان نهاية العصر الذي أسماه "الهراء الليبرالي"، وتوقع أن تلتف أوروبا في نهاية المطاف حول "المسيحية الوطنية للسياسة". لقد عارضت "الناصرية" في مصر في الستينيات الديمقراطية السياسية قائلاً: "لقد مهدنا طريق الديمقراطية السلمية، من أجل أن تكون الحرية للشعب كل الشعب، ولا حرية لأعداء الشعب".

(د. يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة، ص258).

وينقل "القرضاوي" اقتباساً لستالين تبناه الشيوعيون فيما بعد يقول فيه "إن منح البرجوازيين الحريات العامة لا يعدو أن يكون سماحاً لهؤلاء البرجوازيين بالكيد لنا، والتآمر علينا، وتقويض نظامناً". وجرت في أوساط الإسلاميين العرب كذلك، في مصر وسورية وتونس وغيرها محاولات للتصالح بين "الديمقراطية الغربية" و"الشورى الإسلامية"، إلا أنه بقي تقارباً محدوداً هشاً.

وفي مقالة مع "الأهرام"، 25/ 8/ 1992، أقفل مرشد الإخوان المسلمين "مصطفى مشهور" الأبواب في وجه غير الإسلاميين بقوله "وأنا لا أرى محلاً في الواقع الإسلامي- ويقصد النظام الإسلامي في ظل الإخوان- لفتح الأبواب أمام المخالفين للإسلام للدعوة لمبادئهم سواء كان هؤلاء من العلمانيين أو الشيوعيين، وهذا الموقف من قبيل الوقاية". وفي المنطقة الخليجية، كما كتبنا مراراً، يرى بعض قادة التيار الإسلامي أن رؤية التيار الديني العربي والخليجي السياسية عموما "غير واضحة". ويقول د. إسماعيل الشطي، المجلة 28/ 7/ 1996، إن "التيار الإسلامي لا يملك رؤية سياسية للواقع، ولا يولي العمل السياسي والفكر السياسي أهمية كبيرة بقدر ما يولي الفكر التربوي والفكر الحزبي أو الفكر الفقهي". ويضيف أن الإسلاميين لا يزالون يؤمنون بدولة العقيدة، "بينما الآن كل الدولة قائمة على أسس الرقعة الجغرافية والعنصر القومي".

أما د. عبدالله النفيسي (الوطن 15/ 2/ 1997)، فلم يعتبر التيار الإسلامي الخليجي قوة تجديد، بل هو لا يزال "قبلياً محافظاً عروبي النزعة"، وفي الكويت والمنطقة الخليجية يشكو الخطاب الأيديولوجي والعمل الحركي الإسلامي، "من أجواء مرَضيّة كثيرة ومن مركبات نقص هائلة ومن فقدان الترابط".

هل للإسلاميين في العالم العربي مساهمة في تطوير النقاش بخصوص العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية؟ وهل ستطور أحداث 2011 و"الربيع العربي" رؤية الإسلاميين؟ ثمة بالطبع مقالات وآراء كثيرة، ولكنها في الأغلب آراء أفراد مجتهدين في مجال "تجديد الفكر الديني" وليس من الواضح إن كانت مثل هذه الاجتهادات تجابه بالقبول في برامج الإخوان كما رأينا منذ قليل. وإذا كان تقبل الإخوان للتعددية السياسية بهذه الصعوبة فلا ريب أن مخاوفهم من الليبرالية الاجتماعية والثقافية أشد وأعمق جذوراً، كما أن مثل هذه المخاوف على صعيد المنطقة الخليجية والعالم العربي والإسلامي لا تنحصر بالإسلاميين وحدهم، مما يعقّد علاقة العرب والمسلمين بالديمقراطية والليبرالية معاً!