لا يختلف كثيرون على أن الوضع الأمثل للإدارة العامة للتحقيقات، هو إبعاد تبعيتها لوزارة الداخلية، والعمل على ضمها للنيابة العامة، ضماناً لتحقيق وحدة التحقيق والادعاء في الدعاوى الجزائية، وإبعاد الجهاز الفني للإدارة عن أي محاولات للتدخل من الجهاز الإداري بالوزارة. لكن نتيجة الرفض القضائي لمسألة ضم التحقيقات إلى النيابة، لدواعٍ فنية وإدارية، لم يكتب لفكرة الضم النجاح، ولم يتبقَّ إلا المطالبة بإنشاء هيئة تحقيقات مستقلة تكون تحت إشراف النائب العام.

المطالبة بإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في قضايا الجنح سيعمل على إدخال هذه الهيئة تدريجياً إلى البيت القضائي، نظراً لطبيعة الأعمال التي يؤديها أعضاء الإدارة العامة للتحقيقات، فضلاً عن إدخالها ضمن المنظومة الفنية والإدارية التي تعيشها النيابة العامة اليوم، لكون النائب العام سيتولى الإشراف على أعمال تلك الهيئة، والتي أصبح وجودها اليوم على نحو مستقل ضرورة لتطوير أعمالها وتقدمها بالشكل الذي نطمح جميعاً للوصول إليه.

Ad

وجود الإدارة العامة للتحقيقات كهيئة مستقلة يتبع لها بعض رجال الأمن، لتوفير الحماية للمسجونين، والتنسيق مع الأجهزة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية ليس بالأمر الجديد، لأن لدينا مثالين قريبين من فكرة وجودها؛ الأول يتمثل في الهيئة العامة للبيئة، وهي هيئة مستقلة تضم جهازاً إدارياً وآخر فنياً، وتتبع لها شرطة، ولها ضبطية قضائية، وتحيل قضاياها إلى النيابة العامة للتحقيق فيها، فيما المثال الثاني، والذي يتمثل في النيابة العامة، فهي جهاز قانوني فني يتولى التحقيق في الجنح والجنايات، وتصدر قرارات تعمل وزارة الداخلية على تنفيذها.

والإشارة إلى المثالين السابقين، لبيان إمكانية وجود هيئة مستقلة للتحقيقات تتولى التحقيق والتصرف والادعاء بقضايا الجنح، كحال هيئة البيئة المستقلة، التي تتمتع بصلاحيات كبيرة، فضلاً عن أن إمكانية أن تصدر قرارات لوزارة الداخلية لضبط المطلوبين، أو منعهم من السفر، أو لطلبهم للتحري، وهو الأمر الذي تمارسه عملياً وزارة الداخلية لدى تنفيذ قرارات النيابة العامة، التي تتولى التحقيق والتصرف والادعاء ببعض الجنح وكل قضايا الجنايات.

كما أن الحديث عن إيجاد هيئة مستقلة للإدارة العامة للتحقيقات ليس بالأمر الجديد، إذ سبق أن أعدت النيابة العامة قبل سنوات مشروعاً رفعته إلى الحكومة طالبت فيه بنقل تبعية الإدارة العامة للتحقيقات إلى وزير العدل، بدلاً من وزير الداخلية، وأن تكون تحت إشراف النائب العام، وذلك على خلفية المشاكل التي عاشتها الإدارة، وأدَّت إلى إنشاء لجنة قضائية برئاسة المحامي العام الأول المستشار سلطان بوجروة، وأصبح من المهم إحياء هذا المشروع، أو أي مشاريع مشابهة تتفق مع فكرة الاستقلال الفني لهذه الإدارة، خصوصاً أنها تضم العديد من الإدارات والأقسام الكبيرة الجديدة، والتي لا يمكن أن تستمر تبعيتها لوزارة الداخلية، لتحقيق فرص تطورها.

ولا يختلف اثنان على أن الأعمال التي يؤديها السادة المحققون التابعون للإدارة العامة للتحقيقات في قضايا الجنح هي ذات الأعمال التي يؤديها السادة المحققون في بعض قضايا الجنح المفوضة والجنايات في النيابة، لكن أسلوب العمل وطرق التأهيل والرقابة والمحاسبة والتفتيش هي الوسائل المختلفة، والتي بالإمكان الوصول إليها، بل التقدم فيها، طالما وفرت تلك الإمكانيات، وقبلها توفير البيئة المكانية والإدارية والمالية، وهي من الأمور التي تفتقدها الإدارة العامة للتحقيقات اليوم، بحكم ارتباطها اللصيق ذهنياً وإدارياً ومالياً ومكانياً بوزارة الداخلية.