التحالف بين الولايات المتحدة وباكستان قد انتهى، وهذا ما أكّده رئيس الحكومة الباكستانية في مؤتمره الصحافي الأخير مع صحيفة "وول ستريت جورنال"، وهو تصريح أدلى به رداً على إعلان الولايات المتحدة قطع كل أنواع مساعدتها لباكستان لإخفاق الأخيرة في إلغاء وجود الجهاديين في أفغانستان، لا بل لدورها في مساعدتهم أحياناً، وثمة ما يجعلنا نعتقد أن التصريح هذا يتجاوز الأمور السياسية التقليدية، ذلك أن مصالح باكستان مختلفة تماماً عن مصالح الولايات المتحدة، ورغم إمكان المصالحة بينهما فإنّ الأمر مستبعد حتى الآن.

بدأ التحالف بين الولايات المتحدة وباكستان في بداية الحرب الباردة، أي بعد تقسيم الهند الذي أدى الى تأسيس باكستان في عام 1947، وسرعان ما تحوّلت الهند وباكستان بعد أن أصبحتا دولتيْن منفصلتين إلى عدوّين لدوديْن، ورغم ادعاء الهند الحياد فإنها كانت أيديولوجياً واستراتيجياً متناغمةً مع الاتحاد السوفياتي، وقد أقلق هذا التناغم الولايات المتحدة، ولكنه أرعب باكستان التي اعتبرت أنها لا تستطيع الصمود في حربٍ ضد السوفيات؛ لذا كان لا بدّ لها من التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية.

Ad

ولكن سرعان ما أصبحت هيكليات التحالف مع جنوب آسيا بالغة التعقيد، فالصين، وهي بدورها لاعبة كبرى في المنطقة، كانت متحالفةً مع السوفيات بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها بدأت في العقديْن التاليَيْن تبتعد تدريجياً عن موسكو لتنشئ تحالفاً غير رسمي مع واشنطن، وكانت الصين تنظر الى الهند والاتحاد السوفياتي كخطريْن محدقيْن، ممّا جعل من بكين حليفةً طبيعية لباكستان، وطبعاً لم تُسعد علاقة الصداقة الجديدة هذه الولايات المتحدة، ولكنها كانت تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة في احتواء الاتحاد السوفياتي، ولفرض الاستقرار في الحدود الجنوبية، اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان في عام 1980، وبات له وجود قرب الحدود مع باكستان وهو وجودٌ أسعد الهند.

وأرعب الاجتياح السوفياتي الولايات المتحدة التي كانت قد طُردت للتوّ من إيران بفعل ثورة 1979، وظنت واشنطن أنّ السوفيات سيستخدمون أفغانستان قاعدة للسيطرة على الخليج العربي، ورغم علم الولايات المتحدة بوجود طرقٍ أخرى للوصول إلى هذا الهدف فإنها كانت مضطرة لاحتواء الاتحاد السوفياتي في الوقت نفسه.

لم يكن الانخراط في مواجهةٍ عسكرية ضدّ موسكو خياراً مطروحاً، نظراً لبعد المسافة ولخصوصيات المعركة؛ لذا سلّحت واشنطن القوات الإسلامية كي تشنّ حرباً عنها بالوكالة، وقامت بذلك بمساعدة باكستان الراغبة في وقف الامتداد السوفياتي، والمملكة العربية السعودية التي كانت تتعرّض لضغوط لكسر تحالفها مع واشنطن منذ الخمسينيات، وهكذا تمّ إنشاء استراتيجية ثلاثية بين هذه الأطراف الثلاثة، ولكن نتائج الحرب لم تكن كما كانت منشودة: كانت العناصر المتشددة في أفغانستان تحارب السوفيات من منطلقٍ ديني لا سياسي، وكان الأمر كذلك أيضاً في الاستخبارات الباكستانية. وسرعان ما فقدت الولايات المتحدة اهتمامها بأفغانستان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وشكل كلّ من العراق وإيران لا أفغانستان الخطر المحدق في الخليج العربي.

لم تستوعب باكستان غياب الاهتمام بأفغانستان، البلد الذي كانت مرتبطة به إثنياً ودينياً وعسكرياً، كونها كانت تحارب فيه الاتحاد السوفياتي، وكان لديها مصلحة استراتيجية في أي خطرٍ يتجسّد في ذاك البلد، وكان الخطر طبعاً وجود الجهاديين، الذين استخدموا أفغانستان كقاعدةٍ لشن اعتداءات 11 سبتمبر ضدّ الولايات المتحدة، واجتاحت الولايات المتحدة أفغانستان بالاتفاق مع أطرافٍ متعدّدة مستعدةٍ للتحالف لأسبابٍ مختلفة.

وكانت الولايات المتحدة تتوقّع أن تشاركها الاستخبارات الباكستانية المعلومات حول القاعدة وطالبان، لكن ذلك كان صعباً للغاية لباكستان، لأنها قضت فترة التسعينيات مستخدمةً الحلفاء المعارضين للسوفيات لإنشاء دولةٍ إسلامية تحت حكم طالبان، وما كانت باكستان تريد أن تعتدي "القاعدة" على الولايات المتحدة لكنها في الوقت عينه ما كانت تريد إسقاط هيكلية سياسية كانت قد حاربت الاتحاد السوفياتي لأجلها.

أنشأ هذا الأمر وقائع سياسية جديدة في جنوب آسيا، ولم يعد الاتحاد السوفياتي موجوداً، لذا ما عاد من تحالفٍ للهند معه، أما الصين فكانت مهتمة بدعم النمو الاقتصادي أكثر مما كانت مهتمةً بدعم باكستان ضدّ الولايات المتحدة والهند التي كانت قد حسّنت العلاقات معها، بمعنى آخر أصبحت باكستان معزولة، كانت حكومة إسلام أباد تدرك أنّ مساعدة الولايات المتحدة تعني زعزعة استقرار باكستان لأنّ الإسلاميين في أراضيها لن يحبّذوا ذلك ولكن باكستان كانت عاجزةً عن مواجهة عداء الولايات المتحدة والهند، خصوصاً مع دعمٍ صينيّ محدود، وفي هذا الإطار بنت باكستان استراتيجية خاصة بها للتعاون مع الولايات المتحدة في أفغانستان من دون الذهاب الى حدّ إغضاب الإسلاميين لديها.

كانت باكستان تسير على خيطٍ رفيع، وغالباً ما تتعثر في خطوةٍ من هنا أو هناك، وأدركت الولايات المتحدة معضلة باكستان ورأت غموضاً في طريقة دعمها لأميركا، وتبحث الولايات المتحدة في هذه المرحلة عن خاتمةٍ لمغامرتها في أفغانستان. لقد أمضت 16 عاماً وهي تخوض حرباً لم تحصد ثمارها بعد، ولن تخصّص الولايات المتحدة بعد اليوم أعداداً كبيرة من الجنود لهذه الحرب لأنها فعلت سابقاً ذلك وفشلت في تحقيق أهدافها المرجوة، وبدلاً من ذلك ها هي تنشئ وحداتٍ صغيرة وعالية التركيز مصممةٍ لشلّ بعض فصائل طالبان وانتزاع نتائج سياسية مقبولة نوعاً ما.

كلّما كانت المقاربة تكتيكية احتاجت الولايات المتحدة الى تعاونٍ باكستاني، وليست باكستان مستعدة للقيام بهذا التعاون، ولكن رحيل الولايات المتحدة في الوقت عينه قد يجعلها عرضةً للقوى العدائية على حدودها، وفي غضون ذلك تشارك الهند بنشاطٍ في تحالف تقوده الولايات المتحدة مع اليابان وأستراليا لمواجهة السلطة البحرية الصينية.

إذاً على باكستان- كونها عالقة بين مطرقة الولايات المتحدة وسندان الهند وكونها مدركةً تماماً نهوض الهند- إما إرضاء الولايات المتحدة أو إقناع الصين بأن تصبح حليفتها من جديد، وذلك آخر شيء تود الولايات المتحدة رؤيته الآن، فقد أخذت الولايات المتحدة عبراً من تجاربها في المنطقة، وهي تعلم أنّ الانخراط في منطقةٍ هشة هو أمرٌ ضروريّ أحياناً، وأنّ النتائج المترتبة على ذلك قد تكون أحياناً غير مرضية.

وتجد الولايات المتحدة اليوم نفسها في حربٍ دائمة مع طالبان، وفي علاقةٍ تزداد غرابةً وعدائيةً مع باكستان التي قد تعيد تفعيل علاقتها مع الصين في وقتٍ قريب، ويجب ألا نستخف بنهاية التحالف بين الولايات المتحدة وباكستان أبداً!

* جورج فريدمان

* «جيوبوليتيكال فيوتورز»