لم أتابع في الأخبار الثقافية ماذا قيل من حيثياتٍ وأسباب لفوز رواية "طعم الذئب" لعبدالله البصيّص بجائزة معرض الشارقة للكتاب، كأفضل رواية عربية لعام 2017م. فذلك لا يهمّ، لأن لكل قارئ أسبابه الخاصة في تفضيل عمل على آخر. ولكن يمكن أن نقول باطمئنان إن من أهم علامات التميز في الرواية، أنها تكسرُ أفق توقعات المتلقي، حين تأخذه إلى موضوعٍ لا يطرقُه إلا القليلون أو النادرون. ربما لتعذّر التماهي في روح الصحراء وتاريخها الطبيعي والطبوغرافي، في زمن انقطعت فيه الصلة بالصحراء، وباتت المعلومات عن الحياة القديمة في نجد وما حولها تُستقى من الكتب والفضاء الإلكتروني، لا من المعايشة و"الاندغام". ودخول الكاتب في طقس الحياة الصحراوية وعناصرها يحتاجُ ولا شكّ إلى مخيلة متقدة لا توجد لها حيثياتٌ في قواعد البيانات والمراجع والوثائق.

الميزة الثانية لرواية "طعم الذئب"، أنها تتكئ على الفانتازيا، ورسمِ عوالمَ غرائبية تتحدى منطق العقل، وتأخذك إلى عالم موازٍ يستحثّ فيك الإثارة والخوفَ والدهشة. تماماً كما تفعلُ قصصُ الغموض والرعب التي تعيد الإنسان إلى مخاوفه الفطرية، وأسئلتِه الوجودية الأولى حول الكينونةِ والحُلم والزمن والموت. وحول سقوطِه في كونٍ مربك ليس فيه ما هو مؤكّد ونهائي.

Ad

أما الميزة الثالثة فهي في اختيار لغة تشبه الموضوع، وتساير زمنه وإيقاعه، وتتلبس ناسَه وأجواءه بحرفية بالغة. وهذا يظهرُ باهراً في مطلع الرواية، ونحن نصاحب "ذيبان" وننغمسُ في طقسه المكاني والنفسي، متعثرين في جروحِه الطازجة، مستنشقين رائحة الخزامى والنوّير والأعشاب الصحراوية الطازجة، ومبتلّين معه في برودةٍ الماء وهو يغطسُ في بِرَك المطر، ويغتسلُ من عذاباتِ أيامِه الثلاثةِ الماضية. لغةٌ تأخذك إلى قلب الصحراء ونبضِها، وكدحِ إنسانها المعذّب بالأعرافِ والتقاليد والغزو والدم وضيم العشيرة وأعبائها. ويمكن القول باطمئنان إن اللغة في "طعم الذئب" تختلف اختلافاً ملحوظاً عن لغة الكاتب في روايته السابقة "ذكريات ضالة". وهذه النقلات اللغوية الموفقة لا يجيدها الكثيرون، باعتبار أن أي كاتب يظل عبداً للغته الخاصة التي يمكن الاستدلال عليها كما يُستدل على ملامح وجهه، ولكن عبدالله البصيّص كسر هذه القاعدة.

غالباً ما نرددُ إن الحكاية في أي عملٍ روائي ليست هي مدار الإبداع، وإنما الإبداعُ يكمن في كيف تُكتب تلك الحكاية. ولكنني أرى أن الكاتبَ في "طعم الذئب" كسر هذه القاعدة أيضاً، لأنه أجاد في اختراع الحكاية وأجاد في تشكيلها الفني أيضاً. إن شخصية "ذيبان" التي لا تستجيبُ لأعراف العشيرة ومقاييس الرجولة المتفق عليها، ولا تعرفُ كيف تحقق ذلك وترفعُ عنها الضيم، تبدو لنا مثالاً للإنسان المُنتهك في عمومه، المرتبكِ في الاستجابة لشروط الحياة كما يجب أن تكون، الضعيفِ أمام ذئاب البشر قبل ذئاب البريّة، المرتعدِ أمام مصيره القاسي الذي سيق له مكرهاً. وحين يتخبّط "ذيبان" وهو يجترحُ المدافعة عن ذاته المستباحة، ويتعثرُ ويجوعُ ويعرى ويُنهشُ لحمُه، يدركُ أنه من الضروري لكي يحيا حسب شروط العيش، أن يخرجَ من كينونته البشرية بضعفها وتخاذلها و"لاشيئيتها" إلى كينونةٍ أخرى أكثر شراسة وتحدياً.

ينتهي ارتحالُ "ذيبان" الوجودي، وليس الارتحالُ في التيه فقط، إلى التحوّر إلى ذئب على المستوى النفسي والذهني والجسدي أيضاً، حين بدأ يتقمصُ الذئبَ في دمه الذي يفور وعضلِه الذي يشتد وصوتهِ الذي يعلنُ عن مرحلة الولوج إلى مستوى آخر من كينونته.

تنتهي الرواية بمشهد مفتوح على الاحتمالات، ومتروك لمخيلة القارئ. فله أن يظن بذيبان الظنون، هل ستنتهي معاناتُه ويتلاشى نقصُه ويُرحَبُ به في مستقره الجديد؟ أم سيتحوّلُ إلى الجنون ويعيشُ على حافةِ العبثِ واللايقين؟

رواية "طعم الذئب" يمكن أن تُقرأ بمستويات عدة، وليس هذا المقال نهايةَ مطافِها.