تصعب الكتابة عن الانتخابات الرئاسية الروسية، لا لأنه من الصعب فهمها بل لأن اللغة العادية لا يمكنها وصفها... يوجد مرشحون، ولكن أسماءهم لن تظهر الا إذا سمح الكرملين بذلك، وتوجد حملة انتخابية ولكن يسمح للمرشحين بالظهور في التلفزيون إذا وافق الكرملين فقط على ذلك، وتوجد مناظرات، في العادة، ولكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحكم البلاد منذ 18 سنة ويسعى إلى فترة رئاسية جديدة من ست سنوات لا يعتزم المشاركة فيها، وتوجد استطلاعات للرأي ولكن نتائجها معدلة بحيث تلائم الحصيلة المرجحة للتصويت، ثم يوجد الاقتراع، ولكن نتيجته مقررة من قبل، وبكلمات أخرى فإن موعد الثامن عشر من شهر مارس المقبل ليس انتخابات بل تدعى فقط انتخابات.

ويواجه الروس الخيار بين «التصويت»في «الانتخابات» أو مقاطعتها فقط، والقرار أكثر صعوبة مما يبدو في الظاهر، ومقاطعة الانتخابات مجادلة واضحة؛ لأن المشاركة تضفي شرعية على مهندسي العملية الانتخابية. ومن جهة أخرى فإن أنصار المشاركة يقولون إن الانتخابات حتى وان كانت مزيفة تضع ضغوطاً على النظام قد تسفر عن تغييره، كما أن الكرملين يسعى جاهداً إلى ضمان تفريغ ذلك الحدث من مضمونه، فلماذا نعمل على تسهيل هذه المهمة له؟ وببساطة أكثر، فإن كل شخص يقاطع هذه الانتخابات يزيد في عدد النسبة المئوية التي سوف يحققها بوتين.

Ad

مسيرات احتجاج

في ديسمبر 2011 وبعد انتخابات مزيفة نزل الروس إلى الشوارع في مسيرات احتجاج عارمة بدت وكأنها تعبر عن البلاد كلها كما شارك فيها مشاهير الكتاب والموسيقيين والممثلين، وفي مارس 2012 أعلن بوتين فوزه بنسبة 63 في المئة من الأصوات وسارع إلى شن حملة قمع ضد مناوئيه. وفي سنة 2013 اضطر خصم بوتين، لاعب الشطرنج غاري كاسباروف الذي عارض المشاركة في الانتخابات، إلى الهجرة وقتل خصمه الآخر السياسي المخضرم بوريس نمتسوف في 2015 كما تعرض المدون المناهض للفساد أليكسي نافالني إلى محاكمة بتهمة الاختلاس وحكم عليه في 2013 بالسجن خمسة أعوام، ولكن الحكم تحول إلى وقف التنفيذ بعد مظاهرات شعبية حاشدة، وفي نهاية 2014 حكم عليه بالاقامة الجبرية وحكم على أخيه بالسجن، وبشكل فعلي تحول إلى رهينة.

وقد رفع نافالني شكاوى إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي أيدت مطالبه كلها، ولكن وزارة العدل الروسية استأنفت ذلك القرار ولذلك فإن نافالني يظل مداناً في روسيا ويظل شقيقه وراء القضبان. وفي عام 2017 تقدم نافالني بطلب للترشح للانتخابات المقبلة ولكن ليس من المؤكد أن يوافق الكرملين على ذلك الطلب لأن القانون الروسي يحظر تقدم المدانين لنيل مناصب رسمية.

وحدث تطور غير متوقع بعد ذلك، فقد أعلنت مقدمة برامج تلفزيونية تدعى سوبتشاك ترشحها لخوض معركة الرئاسة المقبلة، ويبدو أن طلبها يحظى بموافقة الكرملين، وقبل ست سنوات ترشح أيضاً الملياردير ميخائيل بروخوروف الذي أخبرني أن الكرملين طلب منه الترشح وهو يعيش الآن في نيويورك.

وبخلاف نافالني فقد سمح لسوبتشاك بالظهور في برنامج تلفزيوني يخضع لرقابة حكومية وتحدثت فيه ضد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، وبدت في ذلك البرنامج مثل مرشحة معارضة وطالبت كل من يعارض بوتين بالتصويت لها.

وفي تحول مثير للدهشة حضرت سوبتشاك المؤتمر الصحافي للرئيس بوتين في الرابع عشر من شهر ديسمبر حيث سمح لها بطرح سؤال عن «المنافسة في هذه الانتخابات»، ثم مضت إلى طرح سؤال كان نافالني طلب منها تقديمه علناً وكان يتعلق بالاتهامات التي وجهت إليه كما أشارت إلى أنها واجهت صعوبة في القيام بحملات دعاية لأن الناس كانوا يخشون السماح لها باستئجار أماكن للدعاية الانتخابية أو توزيع منشورات خاصة بحملتها الانتخابية، وقالت إن «الناس يفهمون أن الانضمام إلى المعارضة في روسيا يعني اما التعرض إلى القتل أو السجن، أو أشياء من هذا القبيل، وسؤالي هو: لماذا يحدث ذلك؟ هل تخشى السلطات وجود منافسة نزيهة وصادقة؟».

رد بوتين

وقد أجاب بوتين عن هذا السؤال ومن دون تسمية نافالني بتوجيه الاتهام له بالعمل على زعزعة استقرار روسيا، مضيفاً أنه لا يمكن السماح بذلك، وأعقب ذلك تصفيق حاد من مئات من أنصاره.

وفي ديسمبر تم تقديم طلب نافالني إلى لجنة الانتخابات المركزية في موسكو. ويظهر مقطع الفيديو الذي نشرته جمعية نافالني معركة مؤلمة لرجل يقاوم البيروقراطية وقد طرح ترشحه لخوض معركة الانتخابات الرئاسية لافتاً إلى أن قناعته هي أن طلبه سوف يقابل بالرفض من جانب لجنة الانتخابات المركزية كما دعا مسؤولي الانتخابات إلى ممارسة حقهم بالعمل بصورة مستقلة بحسب القانون الروسي.

ورداً على ذلك قالت رئيسة اللجنة انها لا تستطيع قبول طلب ترشح نافالني كما اتهمته بجمع أموال تحت مزاعم زائفة «واستغفال الناس». وعلى الرغم من محاولات نافالني المتكررة لم يتمكن من تحقيق هدفه ورفضت لجنة الانتخابات بالإجماع طلب ترشحه.

وبمجرد انتهاء اجتماع لجنة الانتخابات عمد نافالني إلى نشر مقطع مصور تم تسجيله في وقت سابق يدعو المواطنين الروس إلى مقاطعة هذه «الانتخابات»، وقد ردت سوبتشاك عليه بتكرار بيانه قبل ست سنوات حول عقم البقاء في البيت وتأكيده «أن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة من أجل أحداث تغيير في الوضع، «وكانت طبعاً تفترض إمكانية وجود أي وسيلة لتغيير أي شيء في روسيا.

جدل حول المقاطعة

أثيرت في روسيا مجادلات واسعة حول جدوى مقاطعة الانتخابات، لاسيما أن هذه ليست المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة التي تجري فيها روسيا انتخابات مزيفة.

وقبل ست سنوات عندما جعل بوتين نفسه «منتخباً» دعا إلى مقاطعة تلك الانتخابات اثنان من أبرز خصومه وهما لاعب الشطرنج الذي تحول إلى رجل سياسة غاري كاسباروف والسياسي المخضرم بوريس نمتسوف، ولكن المدون المناهض للفساد أليكسي نافالني عارض تلك الدعوة، وقال: «لا توجد رسالة تعبئة في الدعوة إلى المقاطعة، وقد اقتصرت على دعوة الناخبين إلى البقاء في بيوتهم ومشاهدة التلفزيون والتعبير عن الغضب»، معتبراً أن مقاطعة الانتخابات لن تنجح في تقليص نتائج التصويت بصورة كبيرة.