أظن أن أكبر خطيئة فلسفية ارتكبت في التاريخ هي خطيئة ديكارت، عندما أقنعنا بأن الشك طريق الفكر الآمن، وهو أداة الفكر الصالحة والهادية إلى الصراط المستقيم!

إذ كيف يكون الشك طوق نجاتنا من النار وهو ذاته عقد من الجحيم يحيل الروح إلى رماد؟! تلك الخطيئة أقنعتنا بأن نعظّم الشك لنجعل من هذا الدرب الشائك دربنا الوحيد للوصول إلى الحقيقة! فهل هو فعلاً السبيل الوحيد لنا للوصول إلى اليقين أم أن هناك دربا أقل "دموية" من شوك الشك؟! ومن أين لنا أن نضمن السيطرة على الحرائق التي يوقدها الشك؟! فحرائق الشك عندما تشتعل غالباً لا تبقي من خضرة حياتنا ما يظلل أصبع حقيقة، وعندما يتسلل الشك إلى داخل شخص فإن أول ما يقتات عليه لينمو هو العقل، يلتهمه شيئاً فشيئاً حتى يذهبه كله، الشك لا يضيّع وقته في الهجوم على أي جزء فينا، هو يتّجه مباشرة إلى العقل، ذلك هو أسلوبه المعتاد وتكتيكه المتبع دائماً للسيطرة على شخص ما، إنه يدرك في حال تملكه للعقل فإن تملك ما تبقى فهو تحصيل حاصل، فإذا كان هذا هو نهج الشك فكيف نثق بما تمليه علينا عقولنا الواقعة تحت سيطرته، فهو لم يصدر من خلال إرادتها الحرة وإن خرج بصوتها، إن ما تمليه علينا عقولنا يصدر بناء على تقارير كتبت من وجهة نظر الشك الذي وظيفته توليد الظنون السيئة، وجعلها سورا من نار يحيط بنا من الداخل بحجة حمايتنا من ألا نتعرض لحادثة سوء من الآخرين، إلا أن هذا السور لا يمنع السوء فقط ولكن أيضاً القلوب التي تمد لنا قمرا طازجاً من الحب، فكثيرا ما كان جزاء محاولات تلك القلوب الاحتراق بذلك السور الناري المحيط بنا، ذلك السور الذي يمنع الطيور أن تمر سماءنا، ويمنع الحمام من بناء أعشاشه على نوافذنا، ويوبّخ الأطفال من اللعب بطائراتهم الورقية قربنا، ويصم أذن المطر حتى لا يستجيب لدعوات عروقنا الجافة من الظمأ، تلك الخطيئة الديكارتية أعطت للشك ألقا عظيما حتى أصبح سوء الظن من الفطنة، لم تترك تلك الخطيئة فسحة لنا للاطمئنان إلى ما ترشدنا إليه قلوبنا، فكل ما تبصره قلوبنا يتحول إلى دائرة الشك التي استوطنتنا ليتم تحليله وكتابة تقرير عنه بحبر الريبة، لقد أفسد علينا التحوط بالشك لذة النجاة بحسن الظن، ويبّس قلوبنا لأن سماءها أرض غير صالحة لإنبات الغيم! وحتى هذه اللحظة فإن اليقين الوحيد الذي وصلنا إليه من خلال الشك، أننا كثيراً ما خسرنا يقيناً صادقاً بسبب الشك!
Ad