من غير الواقعي القول إن التصويت الكاسح ضد قرار جعل القدس عاصمة لإسرائيل جاء استجابة لضغوط عربية أو إسلامية، فغالبية الذين صوتوا الآن وفي الماضي لمصلحة فلسطين، مثل: الصين والهند وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، لم يصوتوا لأنهم يرون قضية فلسطين عربية أو إسلامية، كما يحلو للبعض منا أن يتصور، بل صوتوا لمصلحة فلسطين رغماً عن ضعف العرب وتشتتهم، وضغوط أميركا.

صوتت 128 دولة (أي نحو ثلثي الجمعية العامة) برفض قرار ترامب نقل سفارة أميركا إلى القدس، وأيدته 9 وامتنعت 35 ، بينما غابت عن الحضور 21 دولة.

Ad

خلال السنوات العشر الماضية أجريت تصويتات بهيئات الأمم المتحدة المختلفة حول أمور متعددة عن فلسطين، شاركت في بعض منها، وكانت النتائج كلها لمصلحة فلسطين باكتساح، فما جرى أخيراً ليس استثناء ولا أمراً مستجداً، حتى "أميركا أوباما" كانت قد وافقت على قرار لمجلس الأمن يدين المستوطنات كمخالفة للقرارات الأممية.

في سنة 1970 كانت هناك 16 سفارة في القدس، واليوم لا توجد أي سفارة، استجابة لقرار لاحق لمجلس الأمن سنة 1980 ضد تحويل القدس عاصمة لإسرائيل، لأنه يتعارض مع المواثيق الدولية ويعيق جهود السلام، ويغتصب أرضاً محتلة.

هذه المرة يكتسب التصويت أهمية خاصة، إذ تزامن مع سلوك أميركي جامح لا علاقة له بالدبلوماسية، قائم على تهديد الدول التي تصوت "ضد أميركا"، بقطع الإعانات عنها، هكذا!

وأرسلت رسائل خطية إلى دول "إن الرئيس والولايات المتحدة كلها تعتبر التصويت شخصياً، وسنرصد أسماء الدول التي صوتت ضدنا"، و"إن لم تصوت معنا فنطلب ‎منك الغياب"، ولذلك زاد عدد الغائبين. امتنعت 3 دول على الأقل كانت ستصوت مع أميركا احتجاجاً على أسلوب التهديد.

في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت هناك 3 دول عنصرية بوضوح لا لبس فيه، روديسيا وجنوب إفريقيا وإسرائيل. كنت أقول إنه لن يستقر العالم طالما هذه الدول على قيد الحياة كدول عنصرية تمييزية مقننة.

وفي حين صارت روديسيا زيمبابوي، وانتهى نظام "أبارتايد" في جنوب إفريقيا، لم يتبق في العالم دولة بهذه المواصفات إلا إسرائيل.

‎ولأننا شعوب مهزومة، تظل طريقة دفاعنا عن فلسطين أو أي من حقوقنا المستلبة "نكوصية"، أي أننا لكي ندافع عن أنفسنا نبحر في الماضي ونعيش في الزمن التليد، نتحسر على ما فات، وكيف أننا كنا رؤوساً ثم أصبحنا ذيولاً للثعالب والجراء.

نحاول حل مآزقنا التي نعيش فيها بالتغني بأمجادنا العظيمة، هروباً من الحاضر المأزوم. وبالتالي نستنتج ونستخلص أن مشكلتنا في فلسطين هي مشكلة قديمة "فقط"، ولا علاقة لحاضرنا بهزيمتنا، فهي إما قومية أو دينية. ونختار من حوادث التاريخ ما يسعف ذلك الفهم وذلك الاستنتاج. ونتناسى، ربما عن عمد، أن إسرائيل ليست متفوقة علينا بدعم أميركا فقط، لكنها متفوقة علينا بالعلم والمعرفة والممارسة السياسية، فرئيس إسرائيلي ورئيس وزراء أسبق مودعان في السجن بتهم فساد، ورئيس الوزراء الحالي تنظر المحاكم في قضايا ضده.

لدينا، مع الأسف، الحكومات والشعوب تضحك على بعضها، ويخدع بعضها بعضاً، مستغلين قضية فلسطين للإبقاء على الأوضاع كما هي.

قضية فلسطين هي قضية حق مستلب واغتصاب بيّن، وعدوان لا لبس فيه، كما كانت الحال في روديسيا وجنوب إفريقيا وغيرهما، ويؤمن معنا بذلك مئات الملايين من البشر في أنحاء الدنيا، لذلك مازالت التصويتات الدولية تصب في مصلحة فلسطين في كثير من المحافل الدولية، على الرغم من قوة أميركا وصلفها وغرورها، وعلى الرغم من ضعفنا وهواننا. ويبقى السؤال المفتوح: إلى متى سيستمر ذلك؟