«الأسلوب هو الرجل»، مقولة شهيرة ومتداولة لجورج بوفون. ويبدو أنه قالها وهو يعني الإنسان بعمومه، بعد أن غدت الكتابة قاسماً مشتركاً بين الرجال والنساء، يسكبون فيها عصارة أفكارهم وأهوائهم وأمزجتهم.

في إحدى جلسات الملتقى الثقافي، بادرت الصديقة فوزية الشويش– في مقام التعليق على مسألة الأسلوب في الكتابة– بالقول إنها تشعر بأن كتابتها مشعثة وفوضوية ومجنونة، وبعيدة عن الرصانة والتشذيب، وهذا ليس نقلاً حرفياً للقول، إنما يقاربه في المعنى. ولعل هذه من المرات النادرة التي يُسمع فيها من يصف نفسه، لأن معظمنا ينتظر أن يصفه الآخرون، وقد يتلكأ في التفوّه بما يشعر، وخاصة إذا كان يخص صفة لا يراها إيجابية. لكن فوزية الشويش تمتلك شجاعة الاعتراف، ثم تترك لنا الحكم فيما إذا كانت– كما يقول جورج بوفون– هي وأسلوبها ذاتاً واحدة لا تتجزأ، أم أن للأمر وجهاً آخر.

Ad

انطلاقاً من الإيمان بالمقولة الشهيرة، ثم من الامتنان للكاتبة التي سهّلت علينا الولوج إلى هذا المنعطف، الذي يبدو جلياً في كتاباتها، نقول إن فوزية الشويش لديها فهم متقدم لأحوالها، التي يلمس القارئ شيئاً من تمظهرها في الكتابة. فهناك دائماً شيء ما في تكوينها النفسي يجعلها متحفزة ومستثارة، وربما متعجلة، تلهث وراء المفردة والجملة، وكأنها ستضيع منها. ثم تتدافع المترادفات في ذهنها كعربات قطار سريع، فلا تدري أيها تأخذ وأيها تدع، فترص ثلاث أو أربع صفات متتالية لشيء واحد، فيما لا يحتاج الأمر غير صفة واحدة أو اثنتين ليستقيم المعنى ويتضح. لديها ذهن مفرط النشاط، لحوح، يدلق كل ما يَعبُر به من صور ومعانٍ يتراكم بعضها فوق بعض، كأنها تدعو القارئ إلى أن يأخذ ما يعجبه، ويترك ما يفيض عن حاجته.

الذهن المفرط النشاط هو الذي تتسارع فيه وتيرة الأفكار بشكل قياسي. وقد لا يعطي هذا الانثيال فرصة للتمحيص والمراجعة، لأن الذهن مشغول بتوليد الجديد دائماً، فيترك ما وراءه دون التفاتة أو ندم. وعادة ما يمتلك أصحاب العقول المفرطة النشاط معدلاً عالياً في الذكاء والقدرة على الابتكار والإبداع. لكل ما يتسم به أداؤهم من سرعة قد يقلل عندهم مساحة الإتقان. قد يصلح هذا التحليل مقدمة للمناورة حول رواية «الجميلات الثلاث»، وقد لا يخرج عن كونه رأياً عابراً يحتمل الصواب والخطأ.

من الملامح الأسلوبية الشكلية في الرواية تبعثر السطور والفقرات، مثلاً، وعدم التزامها بنظام محدد في ترتيب الصفحة، كما هو معمول به في كتابة الرواية، التي تختلف عن كتابة الشعر، والتي تحتاج إلى نظام يشد نسيج الفقرة، ويعطيها وحدة مفهومة تيسِّر الانتقال بعدها إلى فقرة جديدة تُكمل السياق.

هناك أيضاً كمّ من الأخطاء الطباعية واللغوية والاشتقاقية، والتي يمكن تجاوزها بالمراجعة والتمحيص. لكن أعتقد أن سمة الذهن المفرط النشاط لا يتأتى معها الصبر على المراجعة والتدقيق. وهنا تأتي مهمة المحرر الذي نفتقده بشدة في مؤسسات دور النشر، والذي تكشف معظم الإصدارات أنه لا وجود له ولوظيفته في المؤسسة.

في مقابل هذا النمط الذي مثلنا به أعلاه، هناك الحال المغاير، وهو التحسس المفرط إزاء ما يقع تحت البصر أو السمع من أخطاء لغوية، والمسارعة إلى إزجاء الملاحظات والتصويبات. وقد يصل الأمر عندهم إلى تتبع مواضع الترقيم، كالنقطة والفاصلة والهمزة، وضرورة أن تكون كل علامة في وضعها الصحيح. وهؤلاء قد يكونون مصدر ضيق وإزعاج، بسبب دقتهم المفرطة، وتنكبهم للمثالية. وفي كلتا الحالين تصدق مقولة «الأسلوب هو الرجل».

بالعودة إلى رواية «الجميلات الثلاث»، سنرى أن الحكاية تدور حول أثر الجذور في تشكيل هوية الإنسان، وتحديد انتماءاته، وحول الاشتغال على التعايش مع اختلاط الدماء، الذي كما يفتح آماداً للنمو وسعة الأفق، فإنه قد يضع الإنسان في جملة من الإشكالات المقلقة. كذلك يرين على الرواية أجواء سيرة ذاتية تتشكل من خلال معلومات وإشارات تنثرها الكاتبة بين تضاعيف الرواية، وتبدأ منها رحلة بحث ذات أبعاد تاريخية ووجودية ضاربة في الأعماق.

اشتغلت الكاتبة على تقنية الأزمنة المتقاطعة والأمكنة المتقاطعة كذلك، وأخذت القارئ إلى محطات تاريخية تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر حتى 2016، وأماكن تقع ما بين إسطنبول وحائل والكويت، تلاحق من خلالها جذور الجد الأكبر والأب والجدة والأم، الذين اختلطت بينهم الأعراق والأقدار الحياتية. لتأتي الحفيدة والابنة التي امتلأ رأسها بالأسئلة عن الهويات والجذور، لتفضّ ختم هذا التاريخ العائلي، وذلك عن طريق رحلة استكشافية للأمكنة الغابرة والأرواح التي سكنتها. وكانت هذه الرحلة بالفعل خاتمة مسك، بقدرتها على لمّ خيوط الحكاية ولمّ شخوصها، واستحضارهم في تلك اللحظة الفاصلة، الممتلئة بالمعنى.