من بين الأفلام المصرية الأربعة (ثلاثة أفلام روائية طويلة وفيلم واحد روائي قصير)، التي شاركت في الدورة الرابعة عشرة لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، التي انطلقت في السادس من ديسمبر الجاري، واختتمت في الرابع عشر من الشهر ذاته، فرض الفيلم الروائي الطويل «زهرة الصبار» نفسه على جمهور، ومتابعي، المهرجان، ممن أثنوا على الأسلوب الرصين لمخرجته هالة القوصي، والنعومة التي تناولت بها قضايا عدة على درجة من الحساسية، من دون أن تقع في فخ الخطابة المباشرة أو المراهقة السياسية أو المبالغة الفجة.

غير أن المفارقة المثيرة، التي كشف عنها المهرجان، تتمثل في أن الفيلمين المصريين اللذين اختيرا ليمثلا السينما المصرية في مسابقتي «المهر الطويل» و«المهر القصير»، ثم انتزعا ثقة وإعجاب متابعي المهرجان، وهما الفيلم الروائي الطويل «زهرة الصبار» إخراج هالة القوصي والفيلم الروائي القصير «مارشيدير» إخراج نهى عادل، جمعت بينهما عوامل مشتركة، على رأسها أن المونتاج في الفيلمين يقف وراءه ميشيل يوسف بينما صمم عبد الرحمن محمود شريط الصوت في الفيلمين، وهو ما يعني أن ثمة بصمة إبداعية تكررت في الفيلمين، وأن لكل مخرجة رؤية صائبة في اختيار العناصر التي تتعاون معها، والأهم أن الفيلمين يتسمان باشتباك واضح مع الواقع اليومي، وتواصل رائع مع الهموم الحياتية، في المجتمع المصري، من دون صراخ أو زعيق وتشنج ممقوت.

Ad

في فيلم «زهرة الصبار» (102 دقيقة) نجد أنفسنا جزءاً من أزمة «عايدة» (سلمى سامي)، التي تحمل إرادة حقيقية في تجاوز متاعبها، التي بدأت في سنوات الطفولة والمراهقة، وتكافح من أجل تحقيق ذاتها، رافضة الاستسلام للمصير الذي أراده لها أهلها (أن تكون طبيبة فيما ترغب في أن تكون ممثلة) ولما فشلت في إخفاء مشروعها قاطعها أهلها، وفشلت في أن تكون ممثلة، بينما جارتها «سميحة» (منحة البطراوي)، تعيش وحيدة، بعدما قاطعت شقيقتها، وتستمد ثقتها من ماض «عاشت فيه الدنيا بالطول والعرض»، لكنها لا تُفصح عن هذا الماضي إلا عندما يقتحم حاضرها، من خلال صديقها القديم «مراد» (زكي عبد الوهاب)، الذي رفضت أن تتزوجه، عندما كانت تُلقب

بـ «المغناطيس» بسبب قوة جاذبيتها!

تزرع «عايدة» زهرة صبار في شرفة شقتها، ربما لأنها تشبه شخصيتها كثيراً، وهناك أحاديث متفرقة عن قنابل تنفجر هنا وهناك، في إيحاء بالاضطرابات الأمنية التي تعيشها مصر، وحديث أكثر أهمية عن «حرب المياه»، التي تنتظر مصر، وبدأت مقدماتها بالفعل، من خلال العربة نصف النقل التي تحمل صهريج ماء عذب «مفلتر وصاف»، لكن المخرجة تنتقد الوضع بعين المحب، ومع كل مشهد تبث مشاعرها الدافئة تجاه «القاهرة العامرة»، رغم المشاكل التي تحاصرها، وتختزلها المخرجة / كاتبة السيناريو في مشهد طرد «عايدة» و«سميحة» بواسطة صاحبة البناية، بحجة عجزهما عن سداد الإيجار، ليجدا نفسيهما في الشارع!

بحساسية فائقة، وحسابات هندسية دقيقة، ولمسات تشكيلية راقية، تتحرك المخرجة طارحة رؤيتها، ولغتها، ففي داخل البناية ترصد كاميرا عبد السلام موسى المصعد من أعلى، والسلالم الملتوية تطل برأسها، وكأنها تتنبأ بالخطر المقبل، وفي مشاهد طفولة «عايدة» تتحول الشاشة، عبر الصورة والإضاءة والديكور والأكسسوار والألوان، إلى صخب جميل، لا يخلو من إيحاءات لها مغزاها (رؤوس وعقول سجينة في أقفاص العصافير)، وحتى دخول الشاب «ياسين» (مروان العزب) حياتهما تم بسلاسة، وعذوبة، ولم يكن مقحماً أو مفتعلاً، بعكس الظهور المفاجئ، والمرتبك درامياً، لشخصية «باسم» (باسم وديع) المصاب باكتئاب، بعد مروره بأزمة عاطفية مع صديقته الألمانية، وتشجيع البطلة وجارتها له على الغناء!

تبحث «عايدة»، وجارتها، عن مأوى، ومجتمع يحتويهما، بعدما أصبحتا لاجئتين، فيما تعيش «هند» (فرح المصري)، صديقتها القديمة في الدراسة، استقراراً زائفاً، في مجتمع لا يعترف بغير الزيف والانتهازية، وتطلب لها الهداية، فيما تتعثر علاقة «عايدة» وحبيبها «أحمد» (الوجه الجديد صدقي صخر)، الذي يرفض الزواج منها، كونه صاحب قناعة بأن «الممثلة سيئة السلوك ورخيصة»، فالنظرة المناهضة للفن تعكس العقلية غير السوية التي تحكم قطاعات عديدة في المجتمع، وهو ما ترصده المخرجة بذكاء، ووعي، ونعومة، وهو الأسلوب الذي اختارته، وفرضته، وأبدعت من خلاله عملاً سينمائياً يتسم بحساسية واضحة، بل إنها نجحت في أن تجعل لـ «زهرة الصبار» عبقاً وألقاً ورائحة طيبة!