لم يصارح العالم العربي نفسه بعد ويعترف بأن ترامب كان قد أجرى "تقدير موقف" قبل أن يتخذ قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وأن هذا التقدير خلص إلى أن ممانعة القرار لن تكون مؤثرة.

لم يكن رد الفعل العربي والإسلامي على إعلان ترامب التاريخي والجوهري على مستوى الحدث، سواء على الصعيد الشعبي أو الرسمي.

Ad

لقد تكفل كتاب ومحللون كثيرون بتوضيح الآثار المترتبة على هذا القرار التاريخي، كما اجتهد آخرون في جلد الضعف العربي والإسلامي، ولوم الأنظمة والمواطنين، وحث الجميع على الارتقاء لمستوى الحدث واتخاذ المواقف الصائبة حياله.

لا بأس بهذه المعالجات كلها بطبيعة الحال، لكن ثمة أهمية أيضاً لمحاولة التعرف إلى الأسباب التي قادت إلى الوضع الراهن؛ وهو وضع لم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين بشأن مركزية القضية الفلسطينية في الوعي والضمير العربي.

لقد تراجعت القضية الفلسطينية سياسياً وإعلامياً تراجعاً ملموساً وجوهريا، وهو أمر يكبد تلك القضية خسائر كبيرة، ويعرقل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الاستقلال والكرامة.

هناك دلائل واضحة على تراجع القضية الفلسطينية سياسياً وإعلامياً على الصعيد العربي. فعلى المستوى السياسي، لم تكن هناك ردود فعل سياسية توازن القرار، أو تضعه على محك التنفيذ، أو تحمل صانعيه على إعادة التفكير فيه، وهو أمر لا يقتصر على الأنظمة والحكومات فقط، ولكنه يمتد أيضاً ليشمل بقية أطراف العمل السياسي، سواء كانت أحزاباً أو جماعات وتيارات وحركات.

وعلى المستوى الإعلامي يكفي فقط أن تقرأ عناوين الصحف اليومية الإقليمية أو المحلية في أي بلد عربي، أو أن تشاهد نشرات الأخبار الرئيسة، أو أن تستمع إلى الأغاني والأشعار، لتكتشف على الفور أن نسب معالجة القضية الفلسطينية في تلك المجالات تتراجع باطراد، وتضيق المساحات المخصصة لها بوتيرة متسارعة.

فإذا نظرنا إلى الخريطة العربية ابتداء من الغرب، وجدنا أن المغرب العربي بدوله المختلفة كان يعطي أولوية ويبذل اهتماماً واضحاً بالقضية الفلسطينية، لكن هذا الأمر لا يبدو واضحاً الآن، بعدما باتت هذه الدول أكثر انشغالاً بأحوالها في ظل تداعيات ما عُرف بـ"الربيع العربي".

أما ليبيا التي كانت تملأ الدنيا صخباً بدفاعها المفترض عن القدس والقضية الفلسطينية، حتى ولو كان هذا الدفاع يتخذ صوراً إعلامية وشكلية فقط في معظم الأحيان، وهزلياً في بعضها، فإنها لم تعد الآن قادرة على التفكير في غير أزمتها الكارثية، بعدما انهارت الدولة، وتوزعت السلطة فيها بين أكثر من كيان، وهيمنت الميليشيات على مساحات شاسعة، وباتت مرتعاً للفوضى.

ورغم أن مصر كانت تقليدياً تلعب دوراً محورياً في القضية الفلسطينية، ورغم أنها تجتهد حالياً في تبني وتسهيل إجراء المصالحة الوطنية بين "فتح" و"حماس"، فإنها تبدو على مستوى الاهتمام الشعبي والضغط الجماهيري بعيدة عن الحدث مقارنة بالأحداث المشابهة التي ألمت بالقدس والقضية والفلسطينية سابقاً. وها هي السياسة الرسمية المصرية تتبنى خطاً محافظاً في معالجة الأزمة، في حين تخفق التيارات السياسية والأحزاب في إسماع صوتها المعارض للقرار على نحو فعال، فيما يفقد الإعلام المصري الاتجاه، ويراوح ما بين محتوى سياسي متشنج وغارق في الانحياز ومحتوى ترفيهي منفلت وغارق في السوقية، فلا تجد القضية الفلسطينية مساحات مناسبة لمقاربتها ومعالجة شؤونها.

فإذا انتقلنا إلى السودان، وقد كان مناصراً تقليدياً للقضية الفلسطينية، لوجدنا اهتماماً أكبر بالشأن الداخلي في ظل تحديات كبيرة، أدت إلى خفوت صوت المناصرة للقضية الفلسطينية في السياسة والإعلام السوداني بشكل واضح.

لا يمكن أن تؤدي سورية دوراً مؤثراً في مناوءة قرار ترامب هذه المرة، ولو حتى على مستوى الصخب الإعلامي الغارق في السمت الدعائي، والتظاهرات الجماهيرية المصطنعة.

تنشغل سورية تماماً في أزمتها الذاتية، بعدما تحولت الدولة إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، وأتتها الميليشيات من كل جانب، وبات مصير وحدتها الترابية معلقاً بسلاح الآخرين.

وما زال لبنان ضحية للتجاذب الذي أبقاه رهن صراعات إقليمية، ووضعه دوماً على فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة، وهو الأمر الذي جعل قادة وتيارات سياسية ونخبا إعلامية وقطاعات واسعة من الجمهور تتوافق على ضرورة "النأي بالنفس" عما يجري في المنطقة.

سيكون العراق طبعاً بعيداً لسنوات طويلة عن القدرة على تسخير أي طاقة لموضوع ذي طبيعة قومية بسبب الانهيار الحاصل في هذا البلد. أما دول الخليج العربية المعروفة تقليدياً بمساندتها القوية للقضية الفلسطينية وخصوصاً على الصعيد الإعلامي، فإن انشغالها بالوضع اليمني، ومشكلة قطر، والتهديد الإيراني الخطير، وبعض المشكلات الداخلية، يأخذها بعيداً شيئاً فشيئاً عن تلك القضية المركزية، ولا يسمح لها بإفراد المساحات المناسبة إعلامياً لمعالجتها ضمن وسائل إعلامها.

وفي المقابل فإن اليمن يعاني مأساته الذاتية؛ وهي مأساة أكبر من أن تمنحه رفاهية الحديث عن الفلسطينيين وأوجاعهم،

وإن تراجع الاهتمام الإعلامي بالقضية الفلسطينية يفقدها قدراً كبيراً من الزخم الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المسلوبة، وهو أمر يجب أن نساعده جميعاً في الوصول إليه، مهما كانت أمورنا صعبة ومشكلاتنا كبيرة.

من بين الأسباب الرئيسة أيضاً لتراجع الاهتمام بقضية القدس وفلسطين عموماً ذلك الانقسام الفلسطيني الذي يلقي بظلال كثيفة على قدرة الفلسطينيين، ومن ورائهم العرب والمسلمون، على مواجهة قرار ترامب الأخير.

بسبب الانقسام بين "فتح" و"حماس" تتضرر القضية الفلسطينية، وتفقد زخماً واعتباراً وأنصاراً كل يوم تقريباً.

لقد خصمت الانتفاضات العربية التي اندلعت مع مطلع العقد الجاري من رصيد القضية الفلسطينية قدراً كبيراً، ليس لأنها سحبت الضوء عنها، ولا لأنها شغلت دول عربية رئيسة بقضايا الحفاظ على بقائها على حسابها، ولكن أيضاً لأنها جعلت من تلك القضية "مشكلة ثانوية"، ونقلتها من بؤرة الاهتمام العربي والإسلامي إلى مواقع أقل أهمية.

لا يمكن توقع رد فعل عربي رسمي وشعبي مناسب على قرار ترامب الأخير طالما أن الدول العربية المعنية بالقضية الفلسطينية مشغولة بهموم داخلية، ومدينة سياسياً ومالياً، أو تجاهد لمجرد الحفاظ على بقائها.

* كاتب مصري