خطفت عملة البتكوين، مع شقيقاتها من العملات الرقمية الأخرى، الأضواء من مختلف القضايا الاقتصادية في العالم، خلال العام الحالي، فلم يعد الحديث عن مفاوضات بريكسيت أو صعود الأسواق الأميركية أو تقلبات أسعار النفط، أو أي قضية أخرى، يحظى بالاهتمام والمتابعة التي سجلتها العملات الرقمية هذا العام، بقيادة البتكوين، بعد المكاسب القياسية على منصات التداول، وكان آخرها الإدراج على منصة بورصة شيكاغو.

والعملات الرقمية تحمل كل سمات وسلوكيات الفقاعة الاقتصادية بامتياز، من حيث تضخم سعر الأصل دون علاقة حقيقية بقيمته الفعلية أو استخداماته في السوق، فتعاملات العملات الرقمية في منصات التداول كسرت مستويات قياسية لم ترد حتى على بال أكثر المتفائلين بها قبل عام، إذ حققت البتكوين هذا العام نمواً بـ 2000 في المئة والاثيريوم 4000 في المئة ولايتكوين 7000 في المئة، مع أن حجم تعاملاتها الفعلية كعملات إلكترونية لا يصل حتى إلى 1 في المئة من حجم تعاملاتها على منصات التداول، فهي على عكس أي عملة واقعية ملموسة تنتج فيزيائيا من خلال عمليات التعدين وحل معادلات رياضية معقدة، لا بناء على سياسات مالية أو نقدية.

Ad

الحقيقة أنه في الوقت الذي يسوّق مضاربو العملات الرقمية أن عملاتهم تمثل مستقبل العملات في العالم، فإن البحث في تاريخ الاقتصاد يخبرنا بأن الفقاعات غير المبنية على منطق الاقتصاد لا تدوم، وأن الطمع اذا امتزج بالمخاطرة وعدم بذل مجهود انتاجي فإن احتمالات الانهيار على المستثمرين والممولين والاقتصاد تكون عالية.

فقاعة التوليب

التاريخ البعيد نسبياً ينبئنا عن فقاعة بذور أزهار التوليب الهولندية، في القرن السابع عشر، التي تحولت من سلعة للتفاخر الاجتماعي إلى أداة مضاربة شرسة، سيطر فيها الهوس على العقل والمنطق، لدرجة جعلت سعر بضع حبات من بذور التوليب تساوي سعر أرض زراعية بماشيتها!

وامتد هوس بذور التوليب إلى سوق المال، ودخل الأوروبيون على خط المضاربة مع الهولنديين، فتصاعدت الأسعار الى مستويات قياسية، وباتت الصفقات تتم حتى على بذور وزهور لم تزرع أصلا، غير ان الامر لم يستمر طويلا لأن الاسعار لم تعد قابلة للارتفاع بأكثر مما ارتفعت خلال أقل من عامين، فبدأ الانهيار السريع للأسعار، وتحولت بذور التوليب وزهورها الى سلعة بلا قيمة، وهو أمر أدى الى افلاس الآلاف في هولندا وأوروبا.

إسحق نيوتن

الفقاعة الاقتصادية على الأغلب تكون بين تفاصيلها نتائج غير منطقية، ومنها تعرض واحد من اهم العباقرة في العالم مثل إسحق نيوتن لخسارة قاسية من استثماره في شركة البحر الجنوبي الإنكليزية - في نفس فترة التوليب الهولندي تقريباً- التي كانت تستهدف خفض مستويات الدين الحكومي، عبر الحصول على امتيازات استثنائية في بحار اميركا اللاتينية، فكانت الشائعات عن الشركة أكبر من حقيقة اعمالها، مما رفع قيمة أسهمها بـ 40 ضعفا عن سعر الأساس، خلال اقل من عام. وهنا قرر نيوتن المخاطرة، لتحقيق ربح سريع، فكانت الخسارة القاسية بعد اكتشاف المستثمرين أن النتائج المالية للشركة ضئيلة ولا تناسب سعر السهم.

«أراضي فلوريدا»

في بداية القرن العشرين، اشتهرت فقاعة «أراضي فلوريدا» في الولايات المتحدة، كوجهة للمستثمرين والسياح، فلم ينته عام 1924 إلا وقد تضاعفت اسعار الاراضي والعقارات في الولاية من 4 الى 6 أضعاف عما كانت عليه الأسعار في بداية العام، وتحول مواطنو الولاية الى تجار عقار أو وسطاء أو اصحاب خدمات عقارية، غير ان العقار كسلعة استثمارية شديد الحساسية من حيث الارتباط بالعائد التشغيلي، الذي لم يعد يتجاوز 1 في المئة، نتيجة لتضخم الأسعار، فحدث هبوط سريع وحاد في العام التالي، انعكس سلبا على المستثمرين والممولين كالبنوك، وتحولت سمعة الولاية من وجهة للأثرياء إلى ذكرى مؤلمة لهم.

فقاعات حديثة

وكي لا يكون الحديث عن الفقاعات تاريخياً وبعيداً، فإن التاريخ الحديث يضع أمامنا مجموعة متنوعة من الفقاعات؛ بعضها في الديون السيادية مثل اليونان والبرتغال وإيطاليا وغيرها من دول اوروبا، وبعضها الآخر في فقاعة تمويل المساكن الأميركية التي أسست للازمة المالية العالمية عام 2008، إضافة إلى فقاعة العقار الياباني بين عامي 1989 - 1990، التي خلفت نحو 10 سنوات من الركود والانكماش في اقتصاد اليابان.

غير أن الفقاعة الأهم على مستوى السلع كانت ما يعرف بفقاعة «الدوت كوم» التي قدرت قيمة انفجارها المباشرة عام 2000 بنحو ترليوني دولار فقط في الولايات المتحدة، وهو ما ارتبط برهان الأسواق والمستثمرين المبالغ فيه، في نهاية تسعينيات القرن الماضي، على منتجات مواقع وشركات الإنترنت، أو بمعنى أدق ان رهانات المستثمرين وقتها كانت اعلى بكثير من قدرات تلك المواقع والشركات على التطوير وتحقيق المكاسب، كما يحدث حاليا في معظم الأسواق. وهنا درسٌ بأن السلعة قد تكون فعلا ناجحة، إلا ان قيمتها كاستثمار لم تحن بعد.

فقاعات كويتية

وفي الكويت، يعرف المستثمرون جيدا تلك الفقاعات، التي غزت بورصة الكويت بين عامي 2003 - 2008، في أسهم شركات ورقية عديمة الانشطة، ارتفعت اسعارها من فلوس قليلة الى دنانير عديدة، وقفزت قيمها السوقية ما بين الاسعار والمنح وزيادات رؤوس الأموال بأكثر من 60 ضعفا، دون اعتبار لأي اساسيات سوق، ولا قواعد انشطة، حتى أتت آثار الازمة المالية العالمية لتعصف بها وتختفي كياناتها، مخلفة «شرباكة» من الديون المضمونة بأصول مسمومة، لا يزال الدائنون يتحملون تبعاتها حتى اليوم.

مخاطر عديدة

مخاطر العملات الرقمية كالبتكوين وشقيقاتها لا تنحصر فقط في كونها فقاعة ذات آثار سلبية على المستثمرين، بل إن لها مخاطر أمنية على الدول تتعلق بسهولة استخدامها في جرائم غسل الاموال وتمويل الارهاب، إضافة إلى احتمالات الاختراق وسرقة الاموال، كما ان لها مخاطر نظامية، لأنها مجهولة الهوية وبلا مصدر معتمد وغير خاضعة لقواعد السياسات النقدية التي تتبعها البنوك المركزية عالميا، وتتصاعد مخاطرها إن تورطت البنوك حول العالم في تمويل المضاربة فيها، كما أن معظم مضاربيها لا يفهمون طبيعتها وتذبذباتها، وإمكانية انشطارها الى عملتين أو أكثر، أو كيفية تعدينها، وإمكانية اختلاف اسعارها في المنصة الواحدة... وهذه حالة متطورة من الفقاعات الاقتصادية، مقارنة بغيرها من الفقاعات، ربما يكون انفجارها ذا أبعاد اكبر من تلك المالية او الاقتصادية.