عود حميد للمستشار عادل بطرس

عاد منذ أيام الصديق والزميل العزيز المستشار عادل بطرس بعد رحلة علاج، في باريس عاصمة النور، متعه الله بالصحة والعافية وأطال الله في عمره، ليمتعنا على صفحات الزميلة "القبس" بكتاباته ورواياته.

Ad

السادات ورئيس مجلس الدولة

وكعادته في التنقيب عن الأحداث كتب مقالا يوم الاثنين الماضي تحت عنوان "الرقابة القضائية" يقص فيه رواية وهي "حفل عشاء ضم الرئيس أنور السادات والدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس مجلس الوزراء والمستشار علي محسن مصطفى رئيس مجلس الدولة، قال السادات للأخير "أنت مزعل حجازي منك ليه؟" فرد المستشار في ذكاء ولماحية: "هذه شهادة أعتز بها سيادة الرئيس.. لأن معناها أن مجلس الدولة يراقب أعمال الحكومة على أكمل وجه"، وأدرك السادات المقصود سريعا، وهز رأسه هزات متوالية لاقتناعه بما قاله المستشار.

وزير المالية ورئيس مجلس الدولة

والواقع أن الخلاف سالف الذكر بين رئيس الحكومة والمستشار كان قد بدأ قبل ذلك بشهور عندما كان رئيسا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، وكان حجازي وزيرا للخزانة، وأصدر وكيل أول الوزارة تعميما إلى جميع الوزارات ينبه عليهم فيه بعدم الأخذ بفتوى أصدرتها الجمعية.

واحتج المستشار، على هذا التعميم في كتاب وجهه إلى الدكتور علي حجازي، وفي كتاب آخر رفعه الى رئيس مجلس الدولة جاء فيه:

"ولئن كانت فتاوى قسم الفتوى بمجلس الدولة استشارية وليس لها صفة الإلزام إلا أن مخالفة فتاوى الجمعية العمومية واجبة التطبيق لأنها مخالفة لأحكام القانون باعتبارها التفسير السليم للقانون، وأن تصرفات الإدارة يجب أن تتسم بالشرعية تحقيقا لمبدأ سيادة القانون، لأن جهة الإدارة حين تستطلع الرأي القانوني من الجهة التي ناط بها القانون دون غيرها إبداءه إنما تريد أن تتعرف على حكم القانون لتنفذه لا لتخالفه".

مقالي في أخبار اليوم 1973

وكتبت مقالا في صحيفة "أخبار اليوم" بتاريخ 10/ 2/ 1973 وكنت وقتئذ مستشاراً بمجلس الدولة تحت عنوان "دولة القانون وفتاوى مجلس الدولة"، في الذكرى التاسعة والتسعين لإنشاء أول هيئة لمستشار الدولة، أعقبها بعد ذلك بسنوات أمر عال في 27/ 1/ 1876 بتنظيم هذه الهيئة لإبداء الرأي القانوني للحكومة في المسائل التي تعرضها عليها، وتنوب عنها أمام القضاء، وتراجع مشروعات القوانين واللوائح، وكانت هذه الهيئة تتمتع باستقلال كامل.

وقلت في هذا المقال بعد هذا السرد "وعلى مدى قرن من الزمان إلا قليلا حفل تاريخ مصر بأحداث جسام وبصراع فكري وسياسي واجتماعي ترك علاماته البارزة على كل شبر من أرض الكنانة، وعلى كل مرافق الدولة وأجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، فقد كان وجود هذه الهيئة ضروريا، وعندما أنشئ مجلس الدولة ليختص بإلغاء القرارات الإدارية المخالفة للقانون أو المجاوزة للسلطة أو التي تعتدي على حق من حقوق الأفراد وحرياتهم، كان القسم الاستشاري بمجلس الدولة الذي أنشأه هذا القانون تأكيدا لمعنى التكامل والتعاضد والمؤازرة مع القسم القضائي في تحقيق الشرعية، وتأكيد سيادة القانون وحماية حريات الأفراد وحقوقهم، وبعد أن اقتصر اختصاص إدارة قضايا الحكومة على تمثيل الحكومة أمام جهات القضاء المختلفة".

القضاء الإداري والفتوى توأمان

وقلت في مقالي: "ازدياد الحاجة إلى قسم الفتوى في ظل قضاء إداري يمارس على تصرفات الإدارة رقابة الإلغاء يرجع إلى سببين:

الأول: هو الرغبة في ضمان الشرعية لهذه التصرفات إذا استعانت الإدارة قبل صدورها برأي قسم الفتوى مخافة أن تتعرض بعد صدورها للإلغاء من جانب القضاء الإداري، وهو الخوف الذي لم يكن له ما يبرره قبل إنشاء قضاء الإلغاء، وحين كانت الإدارات الحكومية تتمتع في إصدار قراراتها بحرية واسعة وهي بمأمن من هذا القضاء.

الثاني: أن اتباع الإدارة رأي قسم الفتوى من شأنه أن يطمئن الأفراد إلى شرعية تصرفاتها وعدالتها، فيجنبهم ذلك مشقة الالتجاء إلى القضاء طعنا على هذه التصرفات، مع ما يترتب على هذا الطعن من قلقلة للمراكز القانونية".

الطبيعة الاستشارية للفتوى هي قوتها

لا يقلل من قيمة الفتوى طبيعتها الاستشارية، بل لا نغالي إذا قلنا إن الطبيعة الاستشارية للفتوى هي التي تضفي عليها قيمة أكبر، لأن طلب الفتوى هو اختيار لجهة الإدارة لاستحالة إلزامها به فيما يعرض لها من مشاكل لا حصر أو توقع لها أو تنبؤ بها، وأن خير مشجع لها على طلب الفتوى هو طبيعتها الاستشارية، وأدعى إلى إحجامها عن طلب الفتوى أن تكون لها طبيعة إلزامية، لأنه لا يتصور قيام التزام يتوقف تنفيذه على محضر إرادة الملتزم.

استقلال الهيئة

وليس من شك في أن المصلحة العامة تقتضي أن يقف إلى جوار الحكومة دائما هذا الجهاز المتخصص في الإفتاء وإبداء الرأي في المسائل القانونية، والذي لا تربطه بالسلطة التنفيذية أواصر التبعية، بل يتوافر فيه الاستقلال عنها بحيث تمثل آراؤه الحيدة لمصلحة القانون، فتسير الإدارة في تصرفاتها على سنن القانون وهديه، سياجها في ذلك الآراء التي يقدمها لها، والعون العظيم الذي يسديه إليها.

وقد أنشأ قانون مجلس الدولة الجمعية العمومية لمستشاري قسم الفتوى وقسم التشريع للنظر في المسائل التي لها من العمومية ما يستلزم توحيد الرأي في شأنها على مستوى الدولة، فإذا ارتأت جهة الإدارة عدم اتباع رأي الجمعية بعد تعدد المراحل التي مر بها الرأي في أقسام الفتوى المتدرجه، فإن تقرير ذلك يجب أن يسند إلى مجلس الوزراء، وأن يكون الدافع إليه أحد أمرين:

الأول: الرغبة في الاحتكام إلى رأي ثالث هو رأي القضاء عندما يعرض عليه النزاع.

الثاني: سلوك سبيل تعديل التشريع لعدم ملاءمة تطبيقه.

أما أن يكون عدم اتباع الفتوى لغير هذين السببين وبغير هذه الوسيلة فهو أمر يأباه الضمير العام في دولة القانون.

ويجد الأفراد- بعد ذلك- ملاذهم في رحاب قضاء مجلس الدولة الذي يمارس رقابته على جميع تصرفات الإدارة إلغاءً وتعويضاً لا يحدّ من ولايته نصوص تحصن الأعمال الإدارية وتحرم الأفراد من الالتجاء إلى القضاء طعنا على هذه الأعمال، ودفعا لمظالم وقعت بهم بعد صدور الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية، الذي نص على أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، وأن لكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا، ويحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.

إدارة الفتوى أسعدها الله بمسعدها

تذكرت هذا كله لأعيد نشر هذا المقال فيما تقدم، وأنا أتابع ما يبذله المستشار صلاح المسعد رئيس إدارة الفتوى والتشريع، من جهود في اختيار مستشاريها والحفاظ عليهم لتؤدي رسالتها المنوطة بها، وأبدي إعجابي فيما طالعت من فتاوى صادرة في الفترة الأخيرة بعد توليه رئاسة الإدارة تتسم بالعمق في البحث والرصانة في الأسلوب فضلاً عن تجردها وحَيْدتها، وأتمنى له وللإدارة أن تكلل جهودهم بالتوفيق للوصول بها إلى المركز الذي يجب أن تتبوأه في دولة القانون، باعتبارها إحدى المؤسسات الدستورية التي نص عليها الدستور فيما نصت عليه المادة (170) من أن يرتب القانون الهيئة التي تتولى إبداء الرأي القانوني للوزارات والمصالح العامة وتقوم بصياغة مشروعات القوانين واللوائح...".

أسعد الله الإدارة بمسعدها ووفقه الله في مسعاه.