جاذبية الذاكرة باطنية الجوهر، تأخذ بيد المبدع إلى العالم الداخلي للتاريخ، ولعالمه الشخصي. نصف ظلية، تتمتع ببعدي الزمان والمكان، لكن على هوى لا معيار فيه، تماماً كهوى المخيلة. جاذبية المخيلة من جانب آخر، تأخذ بيد المبدع إلى الانفلات من قيد الزمان والمكان، لكن هواها، الذي لا معيار فيه، يرتبط بصورة مشيمية بهوى الذاكرة ذاك. لا مخيلة دون دعم من الذاكرة. لذلك، قد تصبح المخيلة لدى المبدع، دون ذلك الرابط المشيمي، ضربا من الهرب من الذاكرة. يلوح ذلك الهرب كشائبة أحياناً، فيضعف بمقدار، وأحياناً يتمتع بالهيمنة التامة، فيصبح أُلهية ذهنية أو لفظية.

رواية "حبات الرمل... حبات المطر" لفلاح رحيم (دار الجمل 2017، 600 صفحة) مائدة دسمة، تستثير الشهية لتناول محاور عدة، بشأن مأزق المثقف العربي (والعراقي بشكل خاص)، الذي تولده علاقته بالأفكار (والأفكار الغربية المترجمة بصورة خاصة)، وتوزعه بين الواقع الحي والمثال المجرد، بين الذاكرة والمخيلة.

Ad

الرواية في قسمين كبيرين يتوسطهما قسم صغير وسيط. تعتمد السيرة الذاتية كما هو واضح، عبر تجربتين يخوضهما شاب في مطلع العشرينيات من عمره، في عراق البعث: تجربة الحب الجامعية، ولك أن تقول تجربة الجامعة العاطفية، وتجربة الجندية الإجبارية. وعبرهما تتعرف على علاقته الحميمة مع عائلته، وعلاقته القلقة مع كل من نفسه، وحبه لهدى، وانتسابه للحزب الشيوعي العراقي. والبطل "كامل" متوقد الذكاء، كثير القراءة في حقل الفلسفة خاصة، يدرس الإنكليزية ويُحسنها. إنه نموذج للمثقف، في مطلع الشباب، الذي يظل يتأرجح بين الحياة الأرضية التي تمثلها العائلة، الأصدقاء، وبين الأفكار التي يستقيها من الكتب. ومن كليهما تنمو وتتطور تجربتان تأبيان على التوحد. الانتساب الحزبي بدوره يعزز هذا التوزع، فهو يضع الفرد بين حياة الرفقة الأرضية بمصالحها المعقدة، وبين الأفكار اليقينية التي هي محض تطلعات صافية، عادة ما تكون في أغلبها إيهامية.

هذه الصيغة من التمزق وجدناها لدى الستينيين بصورة صافية، مستسلمة لليقين. في حين سنجدها في الجيل الثمانيني، كما هي في هذه الرواية، متشككة، مختنقة، وتبحث عن حل. والسبب كامن في أن الجيل الستيني قطع شوطاً يقينياً مع معتقده (قومي/ أممي)، ثم حلَّت به خيبة عميقة بعد انقلاب 63 الدامي، وبعد الانقلاب الناعم على انقلاب 63. في مرحلة العارفين خبر الستيني حياة هادئة، دون سلطة عقائدية. وضع مُعتقده السياسي في المقهى إلى جانبه، وانشغل بالأدب والفكر الطليعيين، اللذين يأتيانه مترجماً من الغرب. هذا الانشغال خلخل التوازن لديه، بين الذاكرة (التي تنطوي على الموروث المعرفي والخبرة الشخصية)، وبين المخيلة (التي هي محض تطلع إلى ما يمليه المستقبل الإيهامي وحده). بين انتسابه كإنسان للمكان وللزمان اللذين هو فيهما، وبين انتسابه لما يمليه عليه سحر ذاك الأدب والفكر الوافدين كمياه الربيع. لكن الستيني كان متطامناً مع خلخلة التوازن هذه، رغم أنها خلخلة بالغة العمق وخطيرة، بحيث مكنته في أحيان من القطيعة مع الذاكرة تماماً، بحيث أدخلته غديراً دافئاً من انفصام الشخصية، فهو حر في لعبة الأدب والفن والفكر، والسلطة بعيدة، والبلد في سلام، والحياة ماشية. في حين كان الثمانيني، رغم طمعه في الانتساب للأدب والفكر الغربيين، يقطع سنوات العمر في وحل حياة من هيمنة الحزب الواحد، والدكتاتور المثير للذعر، والحروب الدموية المتواصلة. كان على تماس جسدي وروحي مع الهلاك. لذلك، وبسبب هذا التماس مع الهلاك، لم يكن متطامناً، كما كان الستيني، مع هذه الخلخلة التي أوجدها هذا الاستلهام للفكر الغربي.

الرائع في الرواية، إلى جانب إمتاعها بنثرها الحيوي، ونمو أحداثها المتباطئ، وزحمة لحظات التأمل، أنها تقدم عينة مكثفة، تصلح على كثيرين، لكن بنسب من الكثافة متفاوتة، من مثقفي العقود الثلاثة الأخيرة. ورغم الشك في خياراته، وهو ما يميزه عن الستينيين، فإنه مُعرَّض هو الآخر لحالة الانفصام، بفعل ثقافة غائمة الجذور وغريبة، تُملي عليه يومياً إكسير معرفة يشبه إكسير الحب، يجعله يعيش في بحران نشوة يقف أمامها كل وجوده الأرضي مندهشاً فاغر الفم.