تطفح الساحة الثقافية بمناكفات لا تسمن ولا تغني من جوع، بعض المثقفين يتبارون في كشف ما خفي، ويعرّف بعضهم العامة بأن ذلك مجرد اختلاف في الرأي أو قد يكون حسداً على نجاح، الأمر الذي يقلب الصورة الجميلة عند المتابع لإبداعاتهم رأساً على عقب، بل قد ينحاز إلى ما سمع أو قرأ، فيكون ذلك سبباً في عزوفه عن متابعة كل جديد، فيبقى في مكانه من هول الصدمة لا يدري أيصدق ما قرأ أم ينفيه لثقته بالكاتب الذي أحب وكُشِف عنه المستور، الأمر الذي لن يكون أبدا في مصلحة الحالة الثقافية بأي شكل.

يتباهى بعض المثقفين الذين أثروا الحركة الثقافية، وبعد أن أسسوا منهجا فكريا، حين يستعرضون أسماء مبدعين عالميين أو مثقفين آخرين ممن تركوا بصمة وحققوا نجاحا مؤثرا، الأمر الذي يجعل القارئ يسأل عن مغزى هذا الاستعراض ولا يفهم منه إلا أن هذا الذي أصبح يتباهى بأعمال غيره، ويستشهد بها جيئة وذهابا إنما هو إعلان «إفلاس» ثقافي، وأن ملكة الإبداع عنده قد ضَعُف نشاطها، واختلطت عليه الصور، فلم يعد يقوى على المشاركة الفاعلة في الحركة الثقافية إلا من خلال استعراض ما قرأ أو التقى من المشاهير، أو نبش صور كانت خافية في حياة الآخرين الذين كان يتابع إبداعهم بالأمس.

Ad

المتابع الجيد رغم سهولة توصله إلى كل جديد من الإصدارات عن طريق الوسائط التقنية الحديثة فإنه يرى في الكتاب أو اللوحة الأصلية أو الاستماع إلى قطعة موسيقية أو مشاهدة عمل مسرحي على خشبة المسرح مباشرة متعة حقيقية لم تمسها التكنولوجيا إلا في أدواتها التي يستعين بها الكاتب أو الفنان لإتمام علمه وإخراجه بشكل أسهل وأسرع، وبالتالي يكون أجمل، وهذه متعة لا يستشعرها إلا أصحاب العقول المتعطشة للجديد الذي يثري ثقافتهم ومعرفتهم.

كثيرة هي المعارض التي تهتم بالإصدارات الجديدة أو بعث الحياة، فيما سبق أن نشر أو تُرجم، وهذه ظاهرة حميدة تحرص الكثير من الدول على إحيائها سنويا، وفي أماكن متعددة تجعل المثابرين من المهتمين يقطعون المسافات للوصول إليها بفرح وسعادة تكتمل حين تقع أيديهم على جديد مثير ومفيد في فكرته وموضوعه، وبما يحقق إضافة فعلية لرصيدهم المعرفي.

غير الحميد في هذه المعارض هو أنها تتيح للكثير من المُنـَتج «الغـَث» مساحة ودعاية تفوق محتوياته بكثير، وتصدم القارئ المتعطش للجديد المفيد، في وجود ظاهرة غريبة باتت تشكل منعطفا ينذر بالضرر حين نجد بعض الإصدارات للشباب، وقد تصدرت أغلفة الكتب صورهم الشخصية بشكل «رخيص» مثير للفضول، لكنه لا يمكن بأي حال أن يكون إضافة جمالية تؤثر في نفس القارئ وتجذبه للمحتوى، أو دعاية مدفوعة الثمن إن لم يكن هذا الكاتب قد دفع ثمن تكلفة الطبعة لدار نشر رخيصة، ولنا أن نتصور ما يترتب على هذا لو أصبحت ظاهرة واستفحلت، فكيف للقارئ الجيد أن يتخير من «الغث» المتوافر ما هو «سمين» مفيد؟!

لن يتوقف البحث عن الكتاب المفيد والكاتب المتجدد مادام هناك من يجيد القراءة، ويبحث عن المعرفة وسط مغريات الوسائل الأسهل والمتوافرة دائما عبر وسائل التواصل والتقنيات الحديثة، فالكثيرون يجدون أن في الكتاب وتصفحه متعة لا يجدونها في الأجهزة الصماء، وأن رائحة الورق بالنسبة إليهم هي النسيم العليل الذي يمس الروح ويوقظ الوجدان.

* كاتب فلسطيني - كندا