اجتمع شباب في مقهى داخل مجمع فخم، فلمح أحدهم داعية ملتحياً مقصراً ثوبه، يهم أن يدفع فاتورته للمحاسب، فنهض أحدهم وقال له بصوت عال: "هناك مفاهيم مغلوطة عن الإسلام تنتشر بشراسة هذه الأيام ما أكثرها! تحث على الإرهاب والتفجير".... استنكر الملتحي هذه الكلمات التي تبدو مقدمة غريبة لندوة ارتجالية، فتحرك بسرعة نحو الباب. فقال ذاك الشاب: "لا ألومكم، ولا أحملكم أنتم أيها الدعاة وجود تلك الخلايا الشيطانية، بل ألومكم لماذا حبستم عن العامة حقيقة أن الغزل ليس حلالا فقط بل عبادة، والتلذذ بالطعام والضحكة والاختراع والزراعة والطب والتجارة كلها عبادة عندما تكون في موطنها الصحيح؟!".

استوقفت هذه الكلمات الملتحي، فاستدار بهدوء لئلا يؤجج الوضع، ورد بسكينة: "عفوا، من حضرتك؟ فقال الشاب بصوت أعلى: أنا فلان ولد فلان، لا يهم أحداً اسمي، أما أنت! فداعية مشهور، لماذا لمْ تعلم الناس يوما مقولة ابن باز رحمه الله "الحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله"، أنت تجاهلت أن الدنيا هي الوعاء الأوحد للآخرة، ولا يتمنى زوال هذا الوعاء إلا منتحر منهزم، أما الجهاد القتالي الضروري فلا يكون إلا بإمرة حاكم الوطن!"، فطن الشيخ المشهور إلى الحاضرين وقد رفعوا هواتفهم الذكية تجاهه، فاستوعب أنه الآن على البث المباشر في الإنستغرام و"تويتر".

Ad

تبسم الشاب الناقد وقال بأعلى صوته بعدما لاحظ ارتباك الداعية: "أكرر عتبي عليك لِمَ سكتّ أمام مفاهيم مريضة تجعل الناس ترى الدرويش المرتجف بزاوية المسجد أكثر تدينا ممن يضارب في البورصة ويمتلك عقارات ليستر عرضه ويؤوي أهله وأهل غيره، وكأنك أنكرت أن العمل عبادة، وكذلك أجدد عتبي عليك لأنك حرَمت الناس معرفة أنه ليس في الإسلام كهنوتية، فليست لك كرجل دين ولا لغيرك قداسة، وأنه شرعا ًيجوز نقدك. ولا ينبغي لك لبس غير ما يلبسه الناس، ألا يجب عليك أن تنفر من انحناءات المفتونين بك حينما يقدمون على تقبيل يدك؟! فحسبك أن تكون مواطناً خادماً لبلدك وعبداً لرب الناس الذين تخدمهم بعلمك المحدود!... اقترب الداعية من الشاب وقبّل رأسه.

بعد ذهول الناس، قال الداعية للشاب الناقد: "لم تكن انتقاداتك إلا في محلها، والله أنت الداعية، ولكن الناس اعتادوا النصائح مني ولم يتوقعوا الحكمة من شاب في مقهى. تعالوا يا شباب، لنشرب القهوة معا!"... بعد هذا الموقف تيقن الحضور أن الحياة في سبيل الله هي الأساس، وأن الاستثناء هو الموت في سبيله، فعسى أن تكون سعادة هذه الحياة سببا لنحيا في فراديس سرمدية، يموت الموت عند بابها!