ليس الحديث هنا عن عموم جنس الرسائل، إنما عن الرسائل التي يحتشد وراءها قلب فنان أو مهجة كاتب يدرك كيف ينسل الحرف من مكمنه، لا لينقل خبرا أو يتبرع بمعلومة، بل ليسوح في تلك المنطقة الجوانية، ليقطف أبهى ثمارها.

إن أثمن الرسائل وأعلاها قيمة، هي تلك التي تكون سجالا متوازنا بين اثنين، يخفقان كجناحي طائر، متساويين في شغف الكتابة ومجد المحبة، كلٌ يلعب دوره في الاستجابة لهذا الشغف القلبي دون منّة أو تقصير.

Ad

كتابة الرسائل ليست انغماساً في الذات فقط، إنما هي تناصّ مع الآخر، الذي يتخذ صفة القرين أو الأنا الثانية. تأتي كتابة الرسالة، لتوقد ملكة الشعور والتفكير والتحليل، فيما تتوارى ملكة النطق، وتجد نفسك إزاء عالم موازٍ بلا لسان، وأنك بتَّ مملوكا للحرف المكتوب الذي يحتل محل ضميرك وذاتك. وكلما زاد التوغل في هذا الضمير المتوقد، زاد خرسك وعتهك أثناء الكلام، كأنك تحيل كيانك إلى الحرف، لا غير، وإلى المناجاة والمساجلة، ليس إلا، وتكاد تظن أنك بلا هذا العتاد الثمين مجرد هيكل خاوٍ تصفر فيه الريح.

حين يكتب الفنانون أو الأدباء رسائلهم المتبادلة، تظهر الميزة الأكثر إنسانية، وهي أنهم يكتبونها لذات المرسل إليه، له ومن أجله، بكل ما يفيض منها من إبداع وحب، دون نية مبيتة بتدبيجها للنشر. أما لو استدعى مقام القيمة الأدبية أو التوثيقية أن تنشر لاحقاً، فذلك شأن آخر. هكذا كانت الرسائل المتبادلة بين عبدالرحمن منيف والفنان التشكيلي مروان قصّاب باشي، سيال سخي من المساجلات العفوية، تمتاح من مخزون الذكريات والأمكنة الغاربة، والأحلام، والطفولة، والرؤى الملونة حول الفن والرسم والكتب واللقاءات المبتسرة والكآبات المتلكئة في آخر أيامهما. وكان المفجّر لهذا اللون من البوح رغبة الروائي عبدالرحمن منيف في كتابة السيرة الفنية والحياتية لمروان قصّاب، فطلب منه أن يترك نفسه على سجيتها، ويسجل له ما يعنّ على ذاكرته وأحواله اليومية من سوانح ومعانٍ، ستكون هي الخميرة الأولى لفكرة الكتاب المزمع تأليفه.

وهكذا، بدأ السجال بين الصديقين على مدى اثنتي عشرة سنة، من 1990 إلى 2003، ليتمخض أخيراً عن كتاب بعنوان "مروان قصاب باشي: رحلة الحياة والفن". لم تكن الرسائل – التي نشرت لاحقاً في كتاب "في أدب الصداقة" – مجرد ثبت معلومات، إنما كانت بحق لوناً من الإفاضات الروحية، تلك التي تعنّ للإنسان في لحظات الاستغراق والتجلي، وهو يواجه نفسه عارياً ومنفرداً وناكصاً إلى سذاجاته وطفولته وبيته البعيد المشلوح في الذاكرة. أكثر مروان قصاب من حديثه عن بيت الطفولة في حارات دمشق، عن الطيور، وكلب المزرعة، وقرية طينية رسمها في صباه. عن عراكه مع قماشة الرسم وطبقات الألوان ودرجات الإضاءة حين تفاجئه عصراً أو قبل المغيب، فتربكه، أو تأتي على قدر توقعاته البصرية. كان مروان قصاب أثناء الكتابة أو الاشتغال على لوحاته، يعيش على ضفتين: حياته في برلين، التي هاجر إليها مطلع شبابه وعُرف بها وذاع صيته، وبين أناه الأخرى المتجذرة في الوطن، الذي شكّل له معيناً لا ينضب من الإلهام، أعانه على تكوين موتيفاته وشخصيته الفنية.

من الأمور التي كرَّست الانسجام بين الصديقين، ما يميزهما من تشابه في الميول والتكوين. فالكاتب منيف تنطوي نفسه على حب أصيل للرسم الذي جرَّبه في خلواته كثيراً. وقصّاب الرسام يحسن الكتابة والتعبير بحس أدبي لافت. وبسبب ذلك ظل الاثنان يحلمان بإصدار كتاب يجمع بين فن الكتابة وفن الرسم، بيد أن الحلم تأجل مداه، ثم تلاشى بعد وفاة عبدالرحمن منيف عام 2004، ومروان قصّاب عام 2016.