لا أناقش أهمية الإعلام، فأهميته من بداهة القول، ولكنْ تيقَّظ في الذاكرة طيفٌ ظللنا نعيشه لعشرات السنين، محاطين بمناخ إعلامي طُبخ في مصانع الإرهاب، حيث باتت تُختلق الحوادث وتُزوَّر الحقائق وتُدبَّج الكتابات، وفق الزيف والأكاذيب والأباطيل والأهواء!

وكان "الجوبلزيون" يسلطون إعلامهم المتخلف -كتخلفهم- على كل نواحي الحياة في بلداننا، ويبرزونها بشكل مناقض تماماً لحقيقتها، فالاستبداد في عرفهم "ديمقراطية"، والتعسف "عدالة"، والجهل "حكمة وتروٍّ"... إلخ.

Ad

وكانت جوقات المنافقين من ذوي المواقف الانتهازية، باعة الضمير والقلم، هي الأدوات التي يُعتمد عليها، مما أسبغ على حركة الإعلام المعاصرة في عالمنا العربي الراهن زيفاً غير متناهٍ، ومسخاً فاق كل التصورات!

***

غير أن هناك بعض الشرفاء ممن أبوا إلا أن يقفوا سداً منيعاً في مواجهة استشراء هذا الفيروس الفتاك، مستخدمين "مصلاً" يمحق وباء الزيف والتضليل، وبعضهم لم يلقِ بقلمه حتى أودع في السجن، ومنهم من دفع حياته ثمناً من أجل ما يؤمن به، ومنهم من التجأ لشتى الأساليب، للتعبير عما يريد أن يعبر به تجاه قضاياه الوطنية، ومنهم من يتنفس هواء الحرية خارج وطنه، وفي حناياه يهفو اشتياق لا يعدله اشتياق ليوم العودة للعيش في وطنه والموت فيه، إذا توافرت لهذا الموت الظروف الملائمة!

ولو عدت إلى العقود الماضية لبرزت أسماء الشرفاء الذين تعرضوا لتصفيات جسدية، بسبب تمسكهم بآرائهم ومبادئهم وأخلاقياتهم، وبغض النظر عن اختلافي أو اتفاقي مع البعض منهم، فإنني سأذكر أسماء بعضهم، لأنهم ذهبوا ضحايا أفكارهم..

- لستم بحاجة للتذكير بناجي العلي، الذي اغتيل في لندن.

- ولربما يجهل أبناء هذا الجيل من هو رياض طه، الذي كان نقيباً للصحافة اللبنانية، فأُطلق عليه الرصاص وأرداه قتيلاً في بيروت.

- وكذلك أُطلق الرصاص على السياسي والكاتب والصحافي صلاح الدين البيطار، في شارع كلود برنارد في باريس، فمات مضرجاً بدمائه في الشارع.

- كما اغتيل الكاتب والصحافي الليبي محمد مصطفى رمضان، في لندن.

- ولا شك في أن عملية قتل سليم اللوزي، صاحب مجلة الحوادث، كانت بشعة، بعد أن عُثر على جثته ملقاة في القمامة وجسمه مشوه وأصابعه مقطعة.

***

هذه النماذج التي جئت على ذكرها، كانت قد عاصرت الأحداث السياسية التي انبثقت في المنطقة، بعد احتلال فلسطين عام 1948، واستمرت قافلة الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الكلمة حتى وقت قليل.

ولكن على ما يبدو أن الإعلاميين الذين لا مبادئ لهم، ولا يؤمنون إلا بما يحصلون عليه من أموال، يعيشون الآن في أزهى عصورهم، فبعضهم قد تملير، والبعض الآخر يلهث وراء المليرة!

وأبحث في عالمنا الراهن عن إعلامٍ حرٍّ شريفٍ فلا يلوح لي في الأفق شيء من هذا! فرحمة الله على إعلامنا العربي... ولكي لا أدخل في دائرة التعميم أقول: "إلا ما ندر"!