تبجح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أمام "الكنيست" خلال احتفالها بذكرى وعد بلفور بأن الحركة الصهيونية قد انتصرت، يذكرنا بتبجح مماثل لفوكوياما عندما أعلن الانتصار النهائي للرأسمالية وحلول ما سماه "نهاية التاريخ" قبل عقدين ونصف من الزمان. فما علامات النصر الإسرائيلية؟ قيام إسرائيل بمعونة القوى الاستعمارية كقاعدة لمخططاتها الكولونيالية في المنطقة، والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني عام 1948، وإرساء أطول احتلال في التاريخ الحديث، وترسيخ منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية، وأخيرا نسف الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وشن إحدى عشرة حربا، ومواجهة انتفاضتين وهبات يصعب حصر عددها للشعب الفلسطيني.

الحركة الصهيونية لم تنتصر، بل تعيش اليوم أسوأ أزماتها، لأنها قامت على تحقيق هدفين: الأول، الاستيلاء على الأرض وقد فعلت ذلك بالعنف الإجرامي وشن الحروب والاحتلال. والثاني تهجير الشعب الفلسطيني، وتطهير فلسطين عرقيا، وقد فشلت في ذلك، فرغم التهجير القسري عام 1948، تعلم الشعب الفلسطيني من تجاربه، وصمد على أرضه واليوم تجاوز عدده على أرض فلسطين التاريخية عدد اليهود الإسرائيليين. ورغم القمع والتنكيل والاعتقالات التي اقترب عددها من المليون حالة اعتقال، ورغم محاولات التدجين والتضليل، ورغم الأخطاء والانقسامات الداخلية الفلسطينية، فما زال الوجود الفلسطيني وجودا مقاوما بكل معنى الكلمة.

Ad

فكل منحى من مناحي حياة الفلسطينيين أصبح نمطا من المقاومة، لأن الصراع يدور حول مبدأ الوجود والبقاء، وحول "أن نكون أو لا نكون". وهكذا أصبحت الصلاة مقاومة، وعلاج المرضى مقاومة، والتعليم والدراسة مقاومة، والعمل والاستثمار مقاومة، وزراعة الأرض مقاومة، والإبداع الثقافي والفني مقاومة، والنشاط الرياضي مقاومة، وإنجاب الأطفال مقاومة. وإذ أيقظ المشروع الصهيوني الوطنية الفلسطينية، فإنه حوّل حياة الفلسطينيين إلى مشروع تحرر، وحفاظ على الذات، ومعركة من أجل الكرامة الإنسانية.

ولا يعني ذلك تجاهل قوة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية، ولا إغفال سعيها إلى التطبيع مع المحيط العربي والإقليمي على حساب الشعب الفلسطيني. لكن فشل القوة العسكرية الإسرائيلية في تحقيق أهداف الصهيونية بعد 100 عام على وعد بلفور، قد كشف حدود ما تستطيع القوة العسكرية تحقيقه، وأظهر مدى القوة الكامنة في الوجود الحضاري والتاريخي والإلهام الوطني لشعب فلسطيني أعزل من السلاح، ولكنه قادر المرة تلو الأخرى على الصمود والبقاء، والاستمرار في الكفاح بعد كل مواجهة. ولا تقتصر علامات الفشل الصهيوني على الوضع المحلي، فالطريق الذي قطعته إسرائيل منذ عام 1967 عندما كان ينظر إليها في الغرب كمعجزة وكتجسيد الأسطورة "داود في مواجهة جوليات الجبار" كان طريق انهيار أخلاقي وسياسي إلى أن وصلت إلى تصنيفها الحالي في نظر الأجيال الشابة كدولة الاحتلال الأطول، والأبارتهايد الأسوأ في العالم، وذلك أمر يعبر عن الكثير. ولا شك أن هناك مغزى كبيراً لما حدث يوم السبت قبل الماضي في شوارع لندن عاصمة بريطانيا التي ارتكبت حكومتها قبل مئة عام جريمة وعد بلفور، فمقابل ثلاثين متظاهرا حملوا العلم الإسرائيلي، وقف نحو خمسين ألف متظاهر من البريطانيين يدينون وعد بلفور ويطالبون حكومتهم بالاعتذار عنه. وإدارة أوباما وجون كيري، التي صبرت على إسرائيل ثمانية أعوام، وامتنعت عن الضغط عليها بشكل فعال لوقف الاستيطان، وزودتها بأضخم قدر من المساعدات العسكرية في تاريخها على أمل إقناعها بالقبول بتسوية ما، اضطرت أن تجابه حقيقة السياسة الإسرائيلية وأن تعترف بفشل المراهنة عليها، وتجلى ذلك سواء بسماح إدارة أوباما بتمرير قرار 2334 في مجلس الأمن ضد الاستيطان، أو في ما تسرب من تصريحات جون كيري الأخيرة، بأن نتنياهو وحكومته لم يريدوا السلام في أي وقت، وأنهم كانوا العقبة في طريقه. قد تقضى إسرائيل على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، وقد تقتل ما يسمونه "حل الدولتين" من خلال الاستيطان وبسبب تقاعس حكومات العالم عن الضغط عليها، ولكن ذلك لن يحقق انتصارا للحركة الصهيونية، ولن يؤدي إلا إلى تعميق وصمة الأبارتهايد الملتصقة بها، ولن يقود إلا إلى إعادة دواليب التاريخ إلى الوراء وعودة "حل الدولة الديمقراطية الواحدة" كبديل وحيد لنظام الأبارتهايد الذي لا يمكن المحافظة عليه، ولن يستطيع الاستمرار مهما حقن بالقوانين العنصرية والقمع الإجرامي والتنكر الإعلامي للوقائع والحقيقة.

وتلك ستكون الخاتمة الطبيعية للمشروع الصهيوني الذي يدعون انتصاره عندما بدأ يعيش أعمق أزماته. إنه انتصار أسوأ من هزيمة.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية