أدركتُ حديثاً أنّ عشر سنواتٍ مرّت ولم أقرأ كتاب «طعام، صلاة، حبّ» (Eat, Pray, Love). بالتأكيد أمضيتُ السنوات الماضية أتحدّثُ عنه، فأقدّمه وأفسّره وأدافع عنه وأوضّحه، وأطلق الدعابات عنه غالباً. لكنّني لم أقرأه فعلاً، ليس بعد انتهائي من تنقيح المسودّة الأخيرة منه قبل بضعة أشهرٍ من نشره عام 2006. نال الكتاب إعجاب البعض فيما بغضه البعض الآخر. وكثيرون ظنّوا أنّه غير مفهومٍ. لكن ردود الفعل كلّها أثارت دهشتي.استخدمت نساء كثيرات الكتاب كدليلٍ للشفاء من مآسيهنّ العاطفيّة وللانطلاق في استكشافاتهنّ الروحيّة، فكان هذا المشهد خلّاباً. سألني الناس غالباً: «بالتأكيد صارت الأمور أكثر جنوناً من حولك بعد نشر كتابك؟»، ولطالما كنتُ أجيبهم: «كلّا، عايشتُ الجنون كلّه قبل «طعام، صلاة، حب»‘ حين كنتُ في العشرينيات من عمري».
قراءتي الثانية
لكنّني أخيراً جلستُ وقرأته مجدداً. كم كانت هذه اللحظة استثنائيّة بالنسبة إليّ. أوّلاً، نسيتُ الكثير! وأظنّ أنّني اختصرتُ التجربة كلّها بـ: بيتزا، بيتزا، بيتزا.نسيتُ أشخاصاً وحوادثَ ومشاهدَ مع الوقت. نسيتُ ذلك الأسبوع الذي أمضيته في مدينة سيسيلي حيث استنفدت وقتي أسأل الغرباء عن الأماكن التالية التي عليّ الأكل فيها. نسيتُ المعاني الدقيقة في الأحاديث المضحكة مع صديقي ريتشارد من ولاية تكساس، الذي فارق الحياة للأسف. نسيتُ الرحلة التي ذهبتُ فيها في بالي مع صديقي الإندونيسي «يود».قال لي كثيرون: «يا ليتنا نستطيع القيام بما فعلتِ»، لكنّني حين كنتُ أقرأ الكتاب رحتُ أفكّر: «يا ليتني أستطيع أنا القيام بما فعلت! يا لها من مغامرةٍ رائعةٍ!». بعبارة أخرى، ظننتُ أنّني كنتُ ممتنّة لهذه التجربة، لكنّني ربّما لم أكن ممتنّة بما فيه الكفاية. عليّ أن أقبّل الأرض كلّ يوم لما استطعتُ فعله خلال ذلك العام البديع، عام الحرّيّة واكتشاف الذات.كذلك لاحظتُ في قراءتي الثانية أنّني وصلتُ إلى تلك الدرجة من الحريّة بقدر ما كنتُ في حالةٍ يُرثى لها. كان من السهل ترك الأمور والأشياء كلّها خلفي لأنّها لم تكن كثيرةً. لم أملك شيئاً لأنّني خسرتُ ممتلكاتي كلّها بعد طلاقي. لم أكن في علاقة رومانسية لأنّني فجّرتها كلّها. كنتُ بلا عمل لأنّني تركته. حياتي كلّها كانت في حالة اضطراب وفوضى، وكان حزني لا يوصف.نسيتُ أنّني لم أكن في وضعٍ جيّد قبل ذهابي إلى إيطاليا. كنتُ مكتئبةً لدرجة لم أستطع تناول الطعام أو النوم. كنتُ أتناول أدوية كثيرة، من مضادّات الاكتئاب إلى مضادّات القلق وصولاً إلى الحبوب المنوّمة. كنتُ ضعيفةً ككلاب الشوارع.حياتي ملكي
كلّ ما في حياتي سبّب لي اضطراباً نفسيّاً. وما أثار دهشتي بشأن «طعام، صلاة، حبّ» أنّ «الكاتبة» على ما يبدو، شعرت بأنّها متقدّمة جدّاً في السنّ. وهنا كانت المفاجأة الكبرى! كم مرة استخدمتُ كلمة «عجوز» في هذه الصفحات وأنا أتحدث عن نفسي! لأوضّح لكم الأمور: كنتُ أبلغ من العمر 34 عاماً حين خضتُ تلك المغامرة. بعد قراءتي الكتاب أدركتُ الضررَ الكبير الذي يتركه الاكتئاب والتوتّر في أنفسنا. أصل كلمة «توتّر» لاتيني وتعني الضغط، وهذا ما يقدّمنا في السنّ قبل الأوان، فيمارس علينا ضغطاً جسديّاً وعاطفيّاً. قال لي أحد الرهبان الذين التقيتهم في الهند: «ما من شيخوخةٍ مثل الاضطراب النفسي، وما من تحرّرٍ من التقدّم في السنّ كالتحرّر من الاضطراب النفسي». أن تحارب هذا الضغط يعني أن تفتح أبواب حياتك على مصراعيها. في هذه الحالة، تتسنّى الفرصة للشباب للعودة.أظنّ أن هذه هي الرسالة التي جعلت صدى «طعام، صلاة، حبّ» يتردّد بشكلٍ عميقٍ لدى ملايين النساء: إذا صارت حياتكِ أشبه بضاغط نفايات، يحقّ لكِ الهروب من هذا الوضع مهما كلّف الأمر. وهروبكِ يخوّلكِ إعادة اكتشاف نفسك حتّى مستوى الخلايا تقريباً. فلطالما يوجّه المجتمع نقيض هذه الرسالة للمرأة: تقبّلي ضاغط النفايات الذي هو حياتكِ. انحني تحت أعبائكِ ولا تتذمّري. تمتّعي بروح مرحة. اعملي بجدٍّ أكبر. استسلمي أكثر. اخضعي أكثر. تحمّلي أكثر. ضحّي أكثر. كوني شهيدةً جيّدةً. تذكّري أنّ حياتك ليست ملكك؛ حياتك ملك أيّ شخصٍ آخر: والدك وزوجك وأولادك ومجتمعك...لكنّ كتاب «طعام، صلاة، حبّ» يطرح السؤال التالي: «ماذا لو كانت حياتكِ ملككِ؟»، هذا هو السؤال الذي طرحتُه على نفسي حين كنتُ ضائعة في غيمة المرض والعار والأسى، ثمّ نشرتُ هذا الكتاب والتفتُّ وطرحتُ السؤال ذاته على العالم.سمعتُ من الأصداء أنّ كتاب «طعام، صلاة، حبّ» شكّل أول فرصة لكثيراتٍ ليطرحن هذا السؤال على أنفسهن للمرّة الأولى. تلقّيتُ رسالةً من امرأة من اليابان تقول: «قبل قراءة كتابك، لم يخطر لي أنّني أستطيع تغيير حياتي! يا إلهي! ما الذي عليّ فعله بنفسي الآن بعد معرفتي هذا؟». يا له من سؤال خطير وجميل في آن، يصطحب معه نتائج خطيرة وجميلة بالقدر ذاته.نستطيع تغيير حياتنا
تلقّيتُ رسائل كثيرةً عن الكتاب، أغربها كانت من امرأة بدأت حديثها كالتالي: «اسمعي أيّتها العاهرة! ألا تعتقدين أنّني أكره زواجي أيضاً؟ ألا تعتقدين أنّني تعيسة؟ ألا تعتقدين أنّني أرغب في الطلاق والذهاب في رحلة البحث عن نفسي في العالم؟ لكنّني لن أفعل هذا! ألتزم بما أعيشه! لأنّ هذا ما يعنيه الزواج! يعني الوفاء بالالتزام!».كيف أردّ على رسالة مماثلة؟ ربّما أرد بالتالي: «إذاً... تهانينا». بالتأكيد قدّمت لي هذه الرسالة الكثير لأفكّر فيه. أوّلاً، لا أوافق على هذا المعنى للزواج! لا أظنّ أن الزواج يعني المعاناة الدائمة لتثبتي أنّكِ تفين بالالتزام. بالتأكيد أنّ الزواج عقد، ولكن في غالبيّة العالم الحديث، هو عقد طوعيّ. نستطيع تغيير حياتنا. نستطيع أن نعيش بمفردنا أو أن نذهب ونبحث عن حبّ صحّي أكثر. فالزواج قادر على أن يكون شيئاً ما غير البؤس، وهذا ما تعلّمتُه من خبرتي في الحياة. في ذلك الوقت، لم أعلم أنّ سعادةً كهذه قد تكون ممكنةً، لكنّني أعلم هذا الآن (إليزابيث على علاقة اليوم بالكاتبة ريّا الياس). لكن على ما يبدو، فهمت صاحبة الرسالة أنّني آمرها بفسخ زواجها التعيس. تدافع بشراسة عن حياتها كما لو شعرت بأنّني أتحدّاها، أو حتى أهدّدها.ولكني سأقول: «لا تفعلي ما فعلت، بل اطرحي على نفسك السؤال الذي طرحتُه على نفسي». لستِ مضطرّة إلى الذهاب إلى إيطاليا وتناول شطائر البيتزا كلّها في البلاد حتّى تجدي نفسك. ولكن ربّما تحتاجين فعلاً إلى أن تسألي نفسكِ عمّا أنتِ مستعدّة للمخاطرة به أو تغييره كي تجدي مفهوم الحرية والسعادة وإعادة الإحياء. لنضع جانباً من كَتَبَ «طعام، صلاة، حبّ» لبعض الوقت ولنركّز على القراء: ملايين النساء في أنحاء العالم واللواتي استخدمنه كجسر عبور إلى إحساس أوسع بقيمتهن وإمكاناتهن ومصيرهن. استخدمن هذه القصّة كإذنٍ ليطرحن على أنفسهن سؤالاً خاصّاً بهنّ، وغالباً ما طرحنه للمرّة الأولى. أجمل رسالة إعجاب تلقّيتُها لم تكن رسالة فعلاً بل تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». كتبت هذه المرأة: «أريدكِ أن تعلمي أنّكِ 85.5 % السبب الذي دفعني إلى الابتعاد عن سوء المعاملة الذي عشتُه طوال 27 عاماً، وجعلني أبدأ بمسيرة البحث عن ذاتي». وهذا كل ما في الأمر. ولم يسعني أن أقول سوى: إلى الأمام. إلى الأمام وشكراً لكِ.بالأرقام:
• 10 ملايين نسخة بيعت من الكتاب في أنحاء العالم.• أمضى الكتاب 57 أسبوعاً على رأس لائحة «نيويورك تايمز» للكتب الأكثر مبيعاً.• تُرجم إلى أكثر من 30 لغة.• المنتجات، كمسابح الصلاة و«جيل» الاستحمام، تُعتبر جزءاً من صناعة الكتاب وتُقدّر قيمتها بخمسة مليارات دولار أميركي. لن أنجب طفلاً
أدركتُ أيضاً في قراءتي الثانية لـ «طعام، صلاة، حبّ» كم فهمتُ رسائل المجتمع عمّا يجب أن تكون امرأة في الرابعة والثلاثين من عمرها. ونسيتُ كم كنتُ مهووسة آنذاك بأنّي لم أنجب أولاداً بعد. يذكّرني ذلك بقصّة لم أدرجها في الصفحات الأصليّة في كتاب «طعام، صلاة، حبّ» لكنّني سأرويها لكم الآن. جرت القصّة في إيطاليا حين كنتُ في القطار بين فلورانس وبولونيا. كانت الرحلة سريعة، أقلّ من ساعة. كنتُ أتشارك المقصورة مع أمّ وطفلها المشاغب. رأيتُ المرأة، بقدر ما كانت تحبّ طفلها، مرهقةً بعد سفرها بمفردها معه. لم أكن مرهقة في ذلك اليوم ووجدتُ الطفل ساحراً، فتدخّلتُ وحاولتُ إعطاءها فرصة لتقرأ كتابها بسلام. لعبتُ مع «البامبينو» (الطفل في الإيطاليّة) لعبة البيكابو و«هات كفّك» و«أنفك معي». كان لقاءً لطيفاً. وحين وصل القطار إلى بولونيا، حملتُ الطفل إلى المنصّة في حين كانت والدته ترتّب أمورها، ثمّ قبّلنا بعضنا البعض وذهبت وطفلها ليلحقا بالقطار التالي. رأيتُهما وهما يبتعدان، هذه الأمّ المتفانية التي عمرها يناهز عمري، وطفلها الرائع الصعب المراس. ثمّ استدرتُ وذهبتُ في الاتّجاه المعاكس لهما، امرأة شابّة بمفردها تتحضّر لقضاء بضعة أيّامٍ في بولونيا لا تفعل أمراً سوى تناول الباستا والتمرّن على الإيطاليّة.كان يوماً جميلاً وكنتُ في غاية السعادة. في تلك اللحظة أدركتُ أنّني لن أنجب طفلاً في حياتي. ربما أحبّ الأولاد وأساعد نساءً أخريات في الاهتمام بأطفالهنّ، لكنّني لن أنجب طفلاً لنفسي. لم أكتب عن هذا الموضوع في الكتاب ربّما لأنّني شعرتُ بخطورة التحدّث عن هذه الإغاثة الهائلة في العلن. ربّما لم أثق في إلهامي. لا أعرف الجواب فعلاً. ولكن كلّ ما أستطيع قوله هو: أنا أثق في إلهامي الآن.