قبل 3 سنوات التقيت عدداً من أعضاء تنظيم رابطة الشمال الإيطالي في اسكتلندا. كانت المرة الأولى للقاء من هذا النوع، لكنها لم تكن الأخيرة، حيث تجددت باجتماع أكاديمي في بريطانيا. كان أحدهم وأكثرهم نفوذاً يؤكد أنهم عازمون على الاستقلال عن إيطاليا، وسيتم ذلك بالتدريج "كلما حصلنا على مزيد من الصلاحيات، سنقيِّم الموقف، ونمضي للخطوة التالية، لتحقيق الاستقلال".

كان ذلك الحديث يجري تحت شعارات "نعم" للاستقلال، التي ملأت غلاسغو، كبرى المدن الاسكتلندية. كنت حينها أجري دراسة، وما زلت، عن عدد من التكوينات الاجتماعية والإثنية واللغوية الأوروبية التي تطالب بالانفصال عن دولها، لمزيد من فهم تلك التحولات في مناطق غربية كانت تظن أنها آمنة، ومستقرة، ولا خوف عليها، فنحن نعلم الكثير عن حالتنا ذات الثقوب السبعة في الشرق.

Ad

كان استفتاء استقلال اسكتلندا، الذي خسر المطالبون بالاستقلال فيه بنسبة بسيطة، محفزاً كبيراً لتلك التكوينات لدراسة الممكن وغير الممكن. وهكذا، تحدثت مع ممثل لتنظيم كتالونيا الوطني، الذي أكد أن استقلالهم قريب جداً.

كذلك، كان هناك نصيب للحديث مع أحد الناشطين الأكراد، الذي أوضح أنه لا سبيل إلا الاستقلال، كذلك أحد ممثلي الفليمش في بلجيكا، والباسك، وغيرها من التكوينات الاجتماعية التي تخطط للاستقلال عن الدولة المركزية التي تتبعها، حتى بلغ عدد تلك التكوينات أكثر من 23.

قبل يومين جرى التصويت لإقليمي لومبارديا وفينيتو الإيطاليين حول زيادة الصلاحيات بالحُكم الذاتي للإقليمين الغنيين، وبالتالي نفذت رابطة الشمال ما تحدثت به قبل 3 سنوات. ويبدو أنهم ماضون في طريقهم، أخذاً في الاعتبار منطقية التحرك، وتدرجه، خشية حدوث ردات فعل قد تجهض مساعيهم نحو الاستقلال.

مَن يتابع ملف كتالونيا وكردستان العراق يلاحظ تشابه التحرك المضاد، مع اختلاف التفاصيل. من الواضح أن خسارة حكومة كردستان كانت كبيرة، واحتمال تعويضها صعب جداً، بل حتى العودة إلى الوضع السابق صار بعيد المنال. أما كتالونيا، فما زالت في مراحل شد وجذب.

المسألة هنا تدور حول كفاءة الدولة المركزية، للدول القومية كنموذج صالح للإدارة السياسية، وعلى رأسها مفهوم السيادة، وإمكانية تفكك الدولة وتشظيها إلى جزيئات أصغر.

تلك المسألة موجودة ومطروحة في كل مكان، وربما أكثرها إمكانية للتفكيك وإعادة التركيب هي منطقتنا، من البحر إلى البحر، دون استثناء، حتى لا يظن أحد بسلامته من تلك التحولات.

نحن في مراحل بداية الموجة الثانية لعملية انفصالات، واستقلالات، تعززها طروح شعبوية حادة، ومنطق قومي متعصب، وشعارات قد يتقبلها عموم الناس، ولربما يتجاوز عدد أعضاء الأمم المتحدة 200 دولة خلال 15 عاماً. إنه زمن تفريخ مزيد من الدول وتفكيكها، وليس المزيد من الاختفاء، فهل تشتد وتيرة الانفصالات أم تحدث ردة فعل عكسية من الدول المتضررة قد نشهد ملامحها قريباً؟