عنوان هذا المقال، هو شطر من أشهر ما كتب المتنبي، واصفا سوء حالته حين قال:

Ad

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرت النصالُ على النصالِ

ولا أحسب أن قولا يمكنه أن يصف الحال الراهنة للثقافة العربية بأبلغ مما يفعل البيتان السابقان. تكاثرت مصائبنا، لدرجة نخشى معها من تبلد الإحساس، بسبب كمّ الدمار والقتل والدم الذي يملأ أعيننا صباح كل يوم.

وحتى لا نقع في حالة من التباكي العاجز، دعونا نسأل أنفسنا: هل نحن حقا ضحية مؤامرات كونية تنصبّ جميعها علينا دون سوانا؟ أم أن لنا يداً طولى فيما نعاني ونذوق من ويلات الحروب والصراعات الطائفية والمذهبية والفكر المتشدد، وغير ذلك من الآفات؟ هل نجرؤ على أن نُطلق سؤال: مَن نحن؟ وكيف ننجو من مصير مخيف يلوح في الأفق؟ يجب أن نواجه الأسئلة السابقة بلا هوادة، لا أن نزيحها من طريقنا، ونمضي كأن شيئا لا يحدث.

يمكن أن نبدأ من الحماية النفسية الزائفة التي نصنعها، كي لا ننتبه للكارثة التي نعيشها، وهي أن نُلقي باللوم على الآخر، أي آخر، فإن لم نجد هذا الآخر المتآمر المدان اخترعناه. نمارس تلك الحيلة الساذجة على نطاق واسع؛ شعبيا ومؤسسيا. ويمكن تلخيصها في مجموعة من الجُمل يهمس بها الإنسان لنفسه، وتدعمها جهود مؤسسية ورؤوس أموال غاية في السخاء، من مثل: أنا الأفضل، لأني أنتمي إلى هذا الدين، أو هذه الطائفة، أو هذا العرق الضارب في التاريخ، أو هذه الطبقة التي حباها الله بالثروة، أو... الخ، وعلى العالم كله أن ينتبه لتفوقي، وأن يعاملني على أساسه، فإن لم يفعل، فلأن العالم حاقد عليّ ويكره تميزي، ويجب الانتباه للمؤامرات التي يحيكها العالم، كي يسلبني ما وهبني الله.

تبدأ أوهام العنصرية بالرغبة في الحماية، نتيجة الضعف الشديد، أو الجهل، ثم تتحوَّل إلى جزء مكون للذات وللوعي، لا يملك صاحبه أن يشفى منه، لأنه لا يملك القدرة على رؤيته بالأساس. حالة إلقاء اللوم على العالم والإيمان غير المبرر بتفوق الذات سريعا ما يجر الإنسان إلى حالة من العنصرية البغيضة التي تحتل الوعي في غفلة من صاحبه.

والعنصرية في أبسط تعريف لها، هي اعتقاد جماعة من البشر أنها تتفوق على كل من عداها؛ عرقيا أو ثقافيا أو دينيا أو اجتماعيا، لأسباب طبيعية منحها الله لتلك الجماعة دون غيرها. وهي فكرة، رغم قلة عدد الكلمات التي تعبر عنها، استطاعت أن تسلب الحياة من ملايين البشر، وأن تدمر مئات المدن عبر التاريخ.

الخطير في العنصرية، أنها تلبس ثوب البداهة، بحيث لا يرى حاملها أنها بحاجة إلى تبرير، هذا إن لاحظها بالأساس. لا يظن الشخص العنصري أنه كذلك، ولا يمكن أن يستخدم كلمة "عنصرية" في وصف يقينه الراسخ بالتفوق. إنه مؤمن بأن هذه هي طبيعة الأشياء، وأن تفوقه هو تفضيل إلهي أو طبيعي لا يحتاج تبريرا، ولا يمكن مراجعته أو تغييره.

تمتزج العنصرية مع مكاسب وأهداف مباشرة للجماعة التي تمارسها، كما امتزجت عنصرية الرجل الأبيض بمكاسبه لقرون، وكما امتزجت العنصرية النازية بأهداف توسعية مباشرة. المخيف في الأمر، أن الإنسان في عمومه يبدو ضعيفا أمام فكرة التفوق الطبيعي القدري، وأمام سحر مكاسبها، وهو ما تحاول القوانين ومؤسسات التعليم أن تقاومه في العالم كله، لا أن تغذيه كما نفعل نحن.