تتكرر الأسئلة عن انحسار الشعر حيناً، وعن ماهيته وأثره في ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقافي حيناً آخر. وأسئلة الشعر قد تكون ذات صلة بأسئلة الرواية، ومن ثم فوضع الجنسين الأدبيين والعوامل ذات الصلة في ميزان التحليل قد يُعين على الإجابة، حين مقارنة الظروف وقياس الأحوال.

هنالك سؤال قد يصلح منطلقاً للمناورة حول هذه القضية، وهو: لماذا حضر الشعر العربي بقوة إبان خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، وأسس لأسماء وقامات مؤثرة، فيما يشهد الآن أحوالاً من التراجع والانكماش؟! والسؤال ذو علاقة، ولا شك، بمزاج العصر، وذو علاقة بالعقائد الفكرية التي تُعدُّ طليعية آنذاك، وذو علاقة بصورة الشاعر ومكانته حينها.

Ad

لقد كان الشاعر بمثابة أمّة في تمثله لدوره وأثره "كفرد" لديه القدرة – من خلال شعره – على النبوءة والقيادة والريادة، ولديه القدرة من خلال دوره الثقافي على التنادي لتأسيس الروابط والجماعات الشعرية التي تدعم أطروحاته ورؤاه، وتروِّج لنتاجاته وصورته الاعتبارية وشخصه. وكان يملك أدوات الشعر ذات البُعد الجمعي، والتي تعبِّر عن وجدان الجماعة والأمّة، كتوظيف الأساطير والإسقاطات التاريخية والفلكلور والحكايات الشعبية والموروثات الدينية، ثم يأتي التراث بثقله وجذوره الغائرة ليكون مصدراً ثرياً للاقتباس والتناصّ.

كل هذه الأدوات كانت جديدة ومبهرة في حينها، لكنها اُستهلكت مع مرور الزمن، وفقدت بريقها وحضورها، وتغيَّرت أوضاع كثيرة على صعيد التوجهات الفكرية، التي خمد وهجها، ولم تعد طليعية، وعلى صعيد المنقلبات السياسية والاجتماعية التي شهدت مداً سلفياً كاسحاً لم يكن على وفاق مع حداثة الشعر وخطابه العصري، ثم ما تلا ذلك من صراعات إقليمية وطائفية لا تزال تطرح ثمارها الفجّة.

في ظل هذه الأوضاع المربكة بدأ الشاعر يفقد بوصلته وأناه، ولم يعد قادراً على التنبؤ أو الاستبصار. وتحوَّل في مرحلة قريبة إلى "الندب" و"جلد الذات"، وإشاعة روح الانهزامية ببكائيات لا تنضب على أحوال الأمة وهزائمها وانكساراتها. وهذه المرحلة فقدت جاذبيتها الفنية أيضاً، وغدت ركاماً كلامياً قلَّت فيه الجودة وكثر الغثاء.

في ظل هذا الواقع الإنساني الراهن، الواقع المأزوم بالصراعات والاضطرابات، المتشظي، المتسارع في أحداثه وإحداثياته، بدأت "الأنا الفردية" المتعالية المثقفة تذوب في المآسي الجماعية، وبدأت تفقد جوهرها ونبوآتها وصوتها المتفرد، وبدأت الساحة الثقافية تستعد لاستبدال الرواية بالشعر. فالرواية بأدواتها الخاصة؛ كالنثرية، والسرد، وتعدد الأصوات، واتساع أفق المكان والزمان، غدت أنسب لمعالجة الواقع الراهن، المنفلت، المربك، الذي تلاشى فيه الفرد وقضاياه الخاصة، وبرزت الكوارث الجماعية، كالحروب والنزوح والتهجير والإرهاب، وغيرها من مآسٍ جماعية. وهكذا، تقلَّص صوت "الفرد" في الرواية، وانكمشت قامته، وأصبح الكاتب ينقل مشاهد، ويوثق، ويسجل، ويروي، دون إصدار أحكام جاهزة أو التبرع برأي. فهو لا يملك تلك "القوى الخارقة!" على التنبؤ أو القيادة، كما كان يعتقد الشاعر.

ما حدث للشعر بعد ذلك، هو أنه فقد "ثيماته العظيمة"، ولم تعد أدواته طليعية، بعد أن تمَّ استهلاكها وتجاوزها، وعاد الشاعر إلى حجمه الإنساني وبساطته وضعفه، وبدأ يتيقن أن الشعرية يمكن أن تتضوّع من البساطة والتواضع والمشاعر اللطيفة الغائرة، ومن الاستبطان وتلمّس المعاني المختفية وراء الاعتيادي واليومي والمهمَل من مفردات الحياة، وأن الركون إلى قصيدة النثر في ألفتها وتواضعها، هو الرهان الأنسب في زمن ما عاد يحتمل قرقعة الموسيقى العالية والإيقاعات المدويّة والقوافي الرنانة، وأن من أهم متطلبات شعر اليوم عدم إنهاكه بلغة فوقية متحذلقة، أو تجريديةٍ مغالية، أو تراكيب هلامية فاقدة للقصد والمعنى. ثم تأتي "قصيدة الومضة" أو "البؤرة"، لتطرح نموذجاً جديداً لمزاج العصر، ببُعدها عن الترهل والثرثرة والتفاصيل التي لم يعد لها وقت أو مساحة.