Ad

لم يحظ دبلوماسي عربي بما حظي به المصري عمرو موسى من مناصب وأضواء، وعلى الرغم من حلوله خامساً في سباق الانتخابات الرئاسية عام 2012، فإنه كان حتى أيام قريبة من الاقتراع قريبا جدا من مقعد رئيس مصر بسبب شعبيته الكبيرة وبريقه كسياسي مخضرم جلس نحو 43 عاما على أرفع كراسي السلطة والسياسة في مصر والعالم العربي، منذ بدأ عمله سفيراً، مروراً بتوليه منصب وزير الخارجية (1991 - 2001) ثم أميناً عاماً لجامعة الدول العربية (2001 - 2011)، وصولا إلى رئاسته «لجنة الخمسين» لتعديل الدستور المصري التي صاغت الدستور الحالي للبلاد وأقره الشعب عام 2014.

ولم يكن اختفاء موسى عن المشهد خلال السنوات القليلة الماضية، سوى «كُمون وقتي»، ليعاود الدبلوماسي العربي الأشهر الوقوف مجدداً تحت هالة ضوء واسعة، لا تختلف أبداً عن تلك التي رافقته طوال مسيرته العملية الطويلة، لكن هذه المرة من خلال مذكراته التي حملت في ثناياها كماً هائلاً من المواقف التاريخية المنزوية، وأزاحت الغبار عن سنوات نشأته الأولى، وقدم من خلالها سجلا حافلا بالمعلومات، التي أثار بعضها الجدل.

«كتابيه»... في حد ذاته، عنوان لامع ولافت، مقتبس من إحدى آيات القرآن الكريم «فَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (سورة الحاقة: الآية 19)، وهي الإشارة الأولى التي تخطف عقلك قبل أن تخوض في القراءة، إلى رجل بات أقرب إلى النهاية، بعدما تجاوز عمره 81 عاماً، بيد أن رصيده الحي من الذكريات التي أشبع بها كتابه، يجعله على قيد حياة من الصعب أن يطولها موت أو خفوت.

اختار موسى هذا العنوان ليسطر تحته مئات القصص التي عاشها وعايشتها مصر والأمة العربية على مدار سنوات عمله، ليخرج الجزء الأول من مذكراته في نحو 650 صفحة متضمنة مجموعة كبيرة من الصور الأرشيفية تعكس سيرته ومسيرته. وفي حلقات مسلسلة تنشر «الجريدة» بالاتفاق مع موسى عرضاً لأهم ما جاء في «كتابيه» - على لسانه - ليدرك القارئ وحده حين يطوي الصفحة الأخيرة من الكتاب، ما إذا كان موسى قد أوتي كتابه بيمينه - حقاً - أم ثمة شيء آخر!

ولدت في الثالث من أكتوبر من سنة 1936م، في حي منيل الروضة بالقاهرة، كان من الأحياء الهادئة، التي تقبل على السكنى فيها الطبقة المتوسطة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كنت صغيراً جداً في هذه الأثناء، كنت في سنواتي الأولى، وأتعجب من تلك المناظر التي لاتزال مطبوعة في ذاكرتي عن تلك الفترة، برغم صغر السن ومرور كل هذه السنين الطوال.

النيل من الأشياء التي ارتبطت بها منذ مرحلة باكرة من حياتي، أذكر بمزيد من السعادة تلك المرات التي أخذتني فيها والدتي السيدة ثريا حسين الهرميل للتنزه على صفحة هذا النهر العظيم، مازلت أشعر بقبضة يدها وهي تمسكني بقوة خلال ركوبنا المراكب الشراعية التي كنا نتجول بها في مياهه، أعتقد أن ذلك كان يجري في الربيع والصيف، كانت أوقاتاً رائعة نقضيها مع الأهل والأصدقاء والجيران.

والدي د. محمود أبوزيد موسى، كان يعمل مدرسا في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، بعد عودته من فرنسا وتخرجه في جامعة ليون، دخل مجال السياسة مثله مثل شباب تلك الأيام الذين تعلموا في أوروبا ويستندون إلى أسر ريفية عميقة الجذور، وانتخب نائبا في مجلس النواب عن حزب الوفد في أواخر العشرينيات، وأوائل ثلاثينيات القرن الماضي، وكان مقربا من زعيم الوفد التاريخي مصطفى النحاس باشا، لأنه كان من ضمن مجموعة شباب حزب الوفد التي تلقت تعليما جيداً في الخارج، وكان الحزب يستند إليهم ويراهن عليهم، ويعدهم للمستقبل في محاولة مدروسة لتواصل أجياله.

إطلالة على عالم السياسة

في هذه الفترة تركنا حي منيل الروضة، وانتقلنا إلى شارع سعيد المتفرع من شارع قصر العيني، كان منزلنا مشرفا على حدائق مجلس الوزراء، الذي كان قصراً للأميرة شويكار ومبناه الفخيم وأشجاره الوارفة (آنذاك) على الناحية الأخرى من هذه الحدائق يربض البرلمان بقبته التاريخية، يوميا كنت أطل من النافذة على هاتين المؤسستين (مجلس الوزراء والبرلمان)، وكثيرا ما حكت لي والدتي عن أهميتهما، اللتين تبدتا لي من خلال متابعتي للحركة الدءوبة حولهما، لاسيما من الضباط والجنود الذين كانوا في كثير من الأوقات يرتدون ملابس التشريفة بألوانها الزاهية المبهجة، أدركت فيما بعد أن مجلس الوزراء والبرلمان مطبخان مهمان في صناعة السياسة في مصر، وفي أي بلد من البلدان.

لم تكن المناقشات التي تدور في اجتماعات الحكومة أو تحت قبة البرلمان بعيدة عما يجري داخل منزلنا من حوارات ونقاشات، لأن والدي وجدي وبعض أخوالي وأزواج خالاتي وأقاربي من جهة والدي ووالدتي، كانوا إما نواباً سابقين في البرلمان، وإما نشطاء في الحياة السياسية الحزبية والمجتمعية في مصر خلال هذه الفترة، وبالنظر إلى قرب منزلنا من مبنى البرلمان فقد كانوا دائماً يلبون دعوات والدي ووالدتي لتناول الغداء أو العشاء وأحيانا الإفطار.

هذه الأجواء – بما فيها سيرة جدي الأكبر الشيخ عثمان الهرميل (والد جدي حسين بيك الهرميل)، ذلك البرلماني العتيد، الذي كان عضواً في "مجلس شورى القوانين"، الذي تم تشكيله سنة 1899 في عهد الخديو توفيق – جعلتني منذ نعومة الأظفار متابعاً للشأن السياسي، وولّدت لديّ شغفا مبكرا بالسياسة والسياسيين، لاسيما بعد أن أتيحت لي الفرصة لرؤية شخصيات وفدية وغير وفدية كبيرة في مناسبات اجتماعية مختلفة في هذه المرحلة المبكرة من حياتي.

إلى محلة مرحوم

بعد أن بلغت الخامسة بقليل، أصيب أبي – يرحمه الله – بالفالج، الأمر الذي قلب نظام الأسرة رأساً على عقب، من بين الوصفات التي وصفت له كي تتحسن حالته الصحية العيش في الريف، حيث الهواء النظيف والهدوء المطلق، والبعد عن التوترات، بما فيها العمل في الجامعة والسياسة، تحقق ذلك بأن دعانا جدي لوالدتي، حسين الهرميل، للإقامة معه في منزله الكبير بـ "محلة مرحوم"، الواقعة إلى جوار مدينة طنطا، بمديرية الغربية، كان بيتاً رحباً يسميه الناس هناك "السرايا"، ولذلك كان من السهل أن يخصص لنا فيه والدي ووالدتي وأنا – جناحا كاملا.

جدي لوالدتي كان نائباً عن هذه الدائرة (محلة مرحوم وبعض القرى المحيطة بها) وكان الجميع يدعونه (البيه الكبير)، كانت لديه عزوة كبيرة في هذه المنطقة، فزوج ابنته كان نائباً عن الدائرة المجاورة، وهي "برما"، وابن أخته كان نائباً عن الدائرة التي تليها وهي، "أبيار"، وأحد أنسابه كان نائباً عن الدائرة التالية وهي "بسيون"، إضافة إلى أبنائه الآخرين الذين كانوا نواباً عن دوائر في المنوفية والقليوبية، وكانوا جميعاً يتوافدون لزيارة جدي في المناسبات العائلية والدينية، وكانت الأحاديث فيما بينهم شائقة ممتعة.

حياتي في هذه الفترة كانت مليئة بالتحرك والتنقل في محيط مديرية الغربية وما حولها، فهناك دعوات غداء وعشاء متبادلة بين كل هؤلاء السياسيين والنواب، وكنت أحضرها مع جدي، الذي كان حريصا جداً على أن أصحبه في معظم جولاته السياسية والاجتماعية، بما في ذلك زيارة النحاس باشا وكبار رجال الوفد.

زيارة مكرم عبيد

خلال تلك الفترة التقيت ببعض زعماء الوفد الكبار في مناسبات عديدة، فعندما بلغت السادسة من عمري، جاء لزيارة جدي، القطب الوفدي الكبير، مكرم عبيد باشا، قبل أن يتم فصله من حزب الوفد في يوليو من سنة 1942م، أنشدت أمامه نشيداً للترحيب به، يقول مطلعه: "أهدي لمكرم باشا الورد".

لم يكن جديداً عليّ أن أقف أمام مكرم عبيد باشا للترحيب به في هذه السن الصغيرة، ذلك أنني قبل هذه الزيارة حدث أن خطبت في الجماهير، خلال المؤتمرات الانتخابية التي كان يقيمها جدي في حملته الانتخابية الخاصة بالانتخابات البرلمانية التي أجريت في مارس من سنة 1942م، والتي فاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة بعد أن قاطعها "الأحرار الدستوريون" و"السعديون".

المدرسة الإلزامية

بعد استقرارنا في محلة مرحوم، كونت بعض الصداقات مع أطفال في مثل سني، كانوا أبناء خالتي التي تعيش في القرية نفسها، وفي يوم من الأيام بينما كنا نلعب ونلهو أنا وابن خالتي شفيق الهرميل، الذي أصبح عضواً بمجلس الشعب بعد ذلك، استدعانا جدي، ونهرنا قائلاً: "هتقعدوا تلعبوا طول النهار؟"، استدعى الفراش الخاص به، وكان اسمه إبراهيم الكفوري، الذي كان بمنزلة سكرتيره الخصوصي وقال له: "خذ عمرو وشفيق واذهب بهما إلى الشيخ محمد النني، ناظر المدرسة الإلزامية"، التي كانت تقع في أول القرية بالقرب من محطة قطار الدلتا.

قال الكفوري للشيخ النني: "البيه الكبير بيقولك خد عمرو وشفيق وأدخلهما المدرسة"، فوافق الشيخ على الفور، وانخرطنا في تلقي الدروس بالمدرسة.

دخلنا – شفيق وأنا – فصلا من فصول المدرسة الإلزامية، مازلت أذكر الكلمات الأولى التي كانت مكتوبة على السبورة، ويرددها التلاميذ خلف المعلم: "وزن، أخذ، زرع، حصد"، أجلسني المعلم الذي كان يرتدي بدلة وطربوشا في الصف الأول وأجلس شفيق في الثاني، انتظمنا من وقتها في الدراسة، بعد أن تسلمنا الكتب المخصصة لهذه المرحلة، وفي آخر العام جاء ترتيبي الأول على الفصل.

رحيل الأب

تُوفي والدي سنة 1945م، ولكن وجود جدي في حياتي خفف نسبياً وقع غياب الأب على نفسي، فقد أولاني هذا الرجل العظيم عناية ورعاية خاصتين، لم يحظ بهما أي من أحفاده الآخرين، كان في أيام الجمع والإجازات يأتي بي ويعطيني جريدة "المصري" الوفدية، التي يحرص على قراءتها – مع جريدة "الأهرام" وجريدة "صوت الأمة" يومياً ومجلة "المصور" أسبوعياً – ويقول: "اقرأ لي هذا المقال" في محاولة منه لتدريبي وتعويدي على حب القراءة والمطالعة، فكنت أقرأ، ويصوب لي بعض الكلمات التي كنت أنطقها بطريقة غير صحيحة.

لاحظ جدي – يرحمه الله – أني أسير بخطوات جيدة في القراءة والكتابة، غير أن خطي كان سيئاً، فأتى لي بمدرس لتعليم الخط، ليعطيني ثلاث حصص في الأسبوع، على أن تكون إحداها يوم الجمعة، تلقيت على يديه دروساً مهمة، دائماً ما كان يعطي جدي تقارير تفيد بأن مستواي في تقدم، تحسّن خطي بالفعل، وإلى الآن حين أكتب على مهل يكون خطي جميلا.

يومياً كان يحضر لبيت جدي مقرئ للقرآن اسمه الشيخ مصطفى البدري، لقراءة ما تيسر له من كتاب الله، كنت أسمعه، برغم أن صوته لم يكن جميلا، في شهر رمضان يحضر معه شيخ آخر اسمه الشيخ يوسف الشرقاوي، الذي علّمني تعاطي "النشوق"، كان يضعه في علبة نحاسية صغيرة، وكثيراً ما كنت أذهب إليه فور وصوله فيعطيني بعضاً منه، وعلى أثره كنت أدخل في نوبة من العطس، إلى أن تنبهت والدتي فنهتني عن استنشاق هذا التبغ (النشوق)، وأمرت الشيخ يوسف بالامتناع عن إعطائي إياه.

المدرسة الابتدائية

ذهبت إلى المدرسة الابتدائية، ومع دخولي إياها لبست "بنطلوناً طويلا" لأول مرة، قبلها كنت أرتدي "الشورت" مثل معظم أطفال ذلك الزمان، كان لبس البنطلون الطويل واحداً من المطالب التي ألححت بها على أمي، كانت تقول لي: "استمتع بالشورت، لأنك لن ترتديه كثيراً عندما تكبر، تمتع بطفولتك يا ابني"، غير أنني كنت مصرا على ارتداء البنطلون الطويل، أول بنطلون أرتديه كان رمادياً، لبسته مع جاكت أزرق أو بلوفر أخضر، وطربوش، فكان هندامي معقولا، لكن هذه القيافة والشياكة كانتا تذهبان إلى خبر كان عندما نلعب الكرة في المدرسة، ففي المرات التي كنا لا نجد فيها كرة نلعب بها، كنا نلعب بطربوش واحد منا!

في "مدرسة طنطا الابتدائية الأميرية" كانت الحياة أكثر جدية واتساعاً، تعرفت فيها على أصدقاء جدد، ليسوا من قريتي "محلة مرحوم" فقط، بل كانوا من المدن والقرى الأخرى في مديرية (محافظة) الغربية، ومن مدينة طنطا ذاتها، وهنا كانت بداية تكوين شلة من الأصدقاء مختلفي المشارب والتكوين.

ثم تأتي الرحلات المدرسية إلى القاهرة أو الإسكندرية، وكنت زبوناً مواظباً على الاشتراك فيها، مبعث حبي لهذه الرحلات هو الصداقة التي تأكدت بيني وبين بعض التلاميذ، وبداية تكوين الشلل، والحرية التي كنا ننعم بها خلال هذه الرحلات بعيداً عن رقابة الأهل، فبرغم وجود مدرسين مشرفين، كانوا حريصين على عدم التضييق علينا، وربما أيضا عدم التضييق على أنفسهم، كنت وثلاثة أو أربعة من الأصدقاء بعد أن يطمئن المدرسون إلى أننا ذهبنا إلى مقر نومنا نقفز من السور للخروج والتنزه مرة أخرى إلى ساعة متأخرة من الليل، بما في ذلك تدخين السجائر، كنا نتمتع لأقصى حد بشعورنا بالانطلاق والحرية بعيداً عن رقابة الأهل.

وبدأت خلال هذه الفترة قراءة الروايات، كنت أقرأ روايات تصدرها مجلة "مسامرات الجيب"، منها قصص شرلوك هولمز وأرسين لوبين، لكن بالتوازي مع هذه الروايات كانت في مكتبة جدي كتب أخرى جادة، قرأت منها "كليلة ودمنة"، و"حديث عيسى بن هشام"، للمويلحي، كما تعرفت على ديواني المتنبي وأمير الشعراء أحمد شوقي.

بجانب تلك الكتب، كانت توجد مضابط مجلس النواب، التي كنت أقرؤها بنهم، لاسيما مناقشات ومداخلات والدي، الذي كان وكيلا للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، وساهم ذلك في تنمية وعيي بالأمور السياسية.

لقاء النحاس باشا

أول مرة زرت فيها النحاس باشا مع جدي كانت في إجازة نصف العام سنة 1945م، قدمني جدي إليه بقوله: "هذا عمرو ابن الدكتور محمود موسى"، فاحتضني الباشا وقبلني وربت على كتفي، وأجلسني على حجره، وظل يسألني بعض الأسئلة من تلك التي تسأل للأطفال في مثل سني: في أي سنة دراسية أنت، وفي أي مدرسة؟ وعندما أجيب يرد مبتسماً: ما شاء الله.

وهنا أود الإشارة إلى أن النحاس باشا عندما علم بمرض والدي، وكان رئيسا للوزارة سنة 1942م، أصدر قراراً بمنحي مجانية كاملة في التعليم بكل مراحله، تقديراً لوالدي بعد أن انتهينا من زيارة النحاس باشا، عبرت مع جدي الطريق إلى قصر فؤاد باشا سراج الدين، فوجدنا جمهوراً غفيراً من الناس ومن الوفديين موجودين لديه.