في شهر فبراير المقبل، ستبدأ الإجراءات الرسمية لرابع انتخابات رئاسية تعددية تشهدها مصر في تاريخها؛ وهي الانتخابات المنوط بها تحديد اسم رئيس الجمهورية، الذي سيحكم لولاية مدتها أربع سنوات، إثر انتهاء ولاية الرئيس السيسي، الذي تسلم الحكم في شهر يونيو من عام 2014.

بالحسابات النظرية، يمكن أن نرصد وجود معسكر مناوءة معتبر لإعادة انتخاب الرئيس السيسي، لكن عملياً يبدو أن من الصعب جداً إيجاد منافس يتمتع بحظوظ.

Ad

ثمة مجمع معارضة كبير يمكن رؤية أثره وفاعليته عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو في النقاشات التي تجري في الأماكن الخاصة، لكن هذا المُجمع لا يبدو أنه يمتلك نقاط ارتكاز سياسية فعالة أو آليات انتخابية وسياسية قادرة على ممارسة أدوارها.

في الانتخابات التعددية التي جرت في عام 2012، والتي أسفرت عن فوز الرئيس الأسبق محمد مرسي، القيادي في تنظيم "الإخوان"، لاحظنا أن هذا المرشح (الباهت والمغمور نسبياً آنذاك) استطاع أن يحصد نحو 5.7 ملايين صوت في الجولة الأولى، التي تنافس فيها 13 مرشحاً من مختلف التيارات السياسية الفاعلة.

عند إضافة ما حصل عليه القيادي "الإخواني" المنشق آنذاك عبدالمنعم أبوالفتوح من أصوات، والتي بلغت نحو أربعة ملايين صوت، فضلاً عن نحو 235 ألف صوت حصل عليها المحامي والمفكر سليم العوا، المقرب من "الإخوان"، يتضح لدينا أن حجم القدرة التصويتية لهذا التيار يمكن أن يصل إلى نحو عشرة ملايين صوت.

لا تعكس خيارات التصويت أعداد أعضاء تنظيم "الإخوان" أو مؤيديهم والمتعاطفين معهم بالضرورة، إذ تبرز أسباب أخرى للتصويت لهؤلاء المتنافسين بالطبع، لكنها تعكس الإمكانية التصويتية التي يمكن حشدها وراء هذا التيار.

إضافة إلى هذا الجسم السياسي، ذي القدرة التصويتية، والفاعلية المنظمة، والبالغ نحو عشرة ملايين صوت، ثمة متعاطفون آخرون يمكن أن يصوتوا لمرشح آخر خلاف السيسي؛ وأعني بهم بعض السلفيين، الذين خرجوا عن طاعة قادتهم، وأحجموا عن التحالف مع المؤسسة الرسمية التي يمثلها الرئيس والمؤسسات الكبيرة، وراحوا يعبرون عن تأييدهم لـ"الإخوان"، أو رفضهم للطريقة التي تم من خلالها إقصاؤهم عن الحياة السياسية.

لا يوجد تقدير واضح لأعداد السلفيين أو قدرتهم التصويتية، كذلك الذي يمكن الوصول إليه في حالة تقييم الحالة الانتخابية "الإخوانية"، لكنهم استطاعوا في الانتخابات البرلمانية التي جرت، في أجواء تعدد وانفتاح سياسيين تلت انتفاضة يناير 2011، واستمرت حتى 30 يونيو 2013، أن يكونوا شريكاً أساسياً في الحكم مع "الإخوان"، عبر فوزهم بحصص معتبرة في انتخابات مجلسي الشعب والشورى السابقين.

لا يقتصر مجمع المناوءة النظرية المفترض للسيسي على "الإخوان" وبعض قطاعات السلفيين فقط، لكنّ ثمة مخزناً للرفض يبدو أنه مكتظ بما يمكن أن نسميهم "الينايريين"؛ أي هؤلاء الذين آمنوا بانتفاضة "يناير"، واعتبروها "ثورة" مكتملة الأركان، وناضلوا لتثبيت نتائجها، قبل أن يخوضوا معركة سياسية عنيفة ضد تسلط "الإخوان"، حين كانوا في الحكم، ثم باتوا في معسكر المناوءة لمسار 30 يونيو، الذي استبعدهم، ثم حاصرهم سياسياً، وعاقب بعض نشطائهم ورموزهم بالسجن.

يمكن أن نحسب قدرة "الينايريين" التصويتية عندما نرصد عدد الأصوات التي حصدها حمدين صباحي مرشح اليسار القومي في الجولة الأولى لانتخابات 2012، إضافة إلى ما حصل عليه الحقوقي خالد علي، الذي كان يتلمس خطواته الأولى في معترك التنافس على المنصب الأهم آنذاك؛ إذ حصد المرشحان ما يقارب خمسة ملايين صوت.

بسبب الإجراءات الاقتصادية الحادة التي اتخذها الرئيس السيسي، في إطار خطته للإصلاح الاقتصادي، وتجاوز آثار التراجع الحاد الذي شهدته البلاد اقتصادياً وتنموياً على مدى السنوات الست الأخيرة، يبدو أن تياراً من المناوءة بدأ يتبلور بوضوح في أوساط شعبية غير مسيسة، دفعت تكاليف موجعة، نتيجة تلك الإجراءات.

لقد اضطر الرئيس إلى إصلاح عيوب هيكيلية عاناها الاقتصاد المصري على مدى عقود طويلة في فترة زمنية قصيرة جداً، إثر اتفاق شائك مع صندوق النقد الدولي، وضمن خطة الإصلاحات كان يجب أن يتم تحرير سعر العملة، ورفع أسعار المواد الأساسية، وترشيد الإنفاق على الدعم، وزيادة غلة الدولة من الضرائب، بمواكبة تراجع أسعار النفط، وانخفاض التحويلات، وضائقة السياحة، وتكلفة الحرب ضد الإرهاب، وانكماش الأنشطة الاقتصادية، وتراجع الاستثمارات الأجنبية.

أخذت هذه الإجراءات الطبقات محدودة الدخل إلى أوضاع صعبة، انعكست على نمط حياتها وخياراتها السياسية والاجتماعية.

ورغم أن تلك الإجراءات بدت منطقية وناجعة من وجهة نظر خبراء ومتخصصين دوليين ووطنيين، في ضوء حجم التحديات التي تواجهها البلاد، فإنها بدت من جانب هؤلاء المواطنين في الطبقة الوسطى والطبقات الأدنى خاصة، وصفة للمعاناة، وتجرع مرارات العوز، تحت وطأة ضغوط غير مسبوقة.

لا يمكن حساب عدد الناقمين من جراء الضغوط الاقتصادية والإجراءات الإصلاحية التي تتخذها الدولة ببساطة، لكن الطبقة الوسطى في مصر ما زالت عريضة وتمثل حجماً لا يستهان به ضمن الهيئة الانتخابية، وهو أمر يمكننا من تقدير أنها قد ترفد الصناديق بثلاثة ملايين صوت مناوئ للسيسي.

بتلك الحسابات، يمكن أن يكون لدينا نحو 20 مليون صوت مناوئ، ضمن هيئة انتخابية تفوق الـ60 مليوناً، وهو أمر يخلق ضغوطاً نظرية على عملية إعادة انتخاب الرئيس.

لكن تلك الضغوط في الواقع لن تكون موجودة بطبيعة الحال؛ لأن كل صوت يفقده السيسي في تلك العملية المفترضة لا يذهب إلى منافس آخر حين تفتح اللجان أبوابها للمصوتين، إذ إن الأسماء التي تم طرحها للمنافسة كلها غير قادرة على تنظيم حملات انتخابية، أو خوض غمار المنافسة، في ظل أجواء خشنة، تأخذها التحديات التي تواجهها الدولة، والنسق القانوني والسياسي السائد، إلى خيارات الاستقرار وعدم المغامرة.

ولذلك، فإن معركة السيسي الانتخابية لن تكون ضد مرشح معين، لكنها ستكون ضد الفراغ السياسي الذي قد يحجم الناخبون عن الذهاب إلى اللجان بسببه؛ وهو أمر لن يخدم صورة الرئيس أو مستقبل البلد.

* كاتب مصري