كل القضايا العربية الساخنة أو الملتهبة أو المعقدة معروفةٌ أسباب وخيوط إشكالاتها ومشاكلها، باستثناء الأزمة الليبية، التي بدأت أكثر تعقيداً من ذنب الضب، ثم ازدادت عُقَدُها وتعقيداتها مع الأيام، إلى حدِّ أن حتى الوسطاء الذين تعاقبوا على هذه المشكلة انسحبوا تباعاً، من دون أن يعرفوا من حقائق الأمور شيئاً، وتركوا لهذا الإنسان الطيب؛ غسان سلامة، الخوض في هذا الوحل الذي خاضوا فيه، ليس حتى ركبهم، إنما حتى أعناقهم.

هناك مَن يقول إن المشكلة تكمن في أن "بَطلي" هذه الأزمة؛ الجنرال خليفة حفتر وفايز السراج، يرفض كلٌ منهما التنازل للآخر، ولو بقيد أنملة، وهناك مَن يقول إن هذه المشكلة تكمن في "الإخوان المسلمين" ومَن يقف وراءهم، أيضاً هناك مَن يقول إن الأمور في هذا البلد وصلت إلى ما وصلت إليه من عُقد وتعقيدات، بسبب التدخلات الخارجية، وأموال "السُّحْت"، التي بادرت بعض الدول المصابة بـ"التخمة الدولارية" بنثرها في جميع الاتجاهات، لإشعار نفسها وغيرها، بأنها دول عظمى، وقادرة على أكثر مما تقدر عليه الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية... والصين الشعبية!

Ad

كانت ليبيا، قبل أن تُبْتلى بالثورة الخضراء، وبانقلاب معمر القذافي، وقبل أن يصبح اسمها أطول من نهر الأمازون، مكوَّنة من ثلاثة أقاليم متآخية ومتعايشة، هي: طرابلس وبرقة وفزان، وكانت هذه الأقاليم، بأهلها، تلتقي كل صباح ومساء، وفي الصيف والشتاء والربيع والخريف... وفي كل لحظة عند ذلك الإنسان الطيب، الشيخ إدريس السنوسي، الذي لم يُصْدِر أو يُصْدَر له، لا كتاب أخضر، ولا كتاب أزرق، وكانت طيبته تجعل كلمته عند أبناء الشعب الليبي الطيب لا تنزل على الأرض.

في الحقبة المتقدمة كانت ليبيا أنجبت المجاهد الأكبر عمر المختار، وكان الليبيون منهمكين في تحرير بلدهم من أسوأ استعمار عرفته البشرية، وهو الاستعمار الإيطالي، ولم يسمعوا بـ"اللجان في كل مكان"، ولا بوصف "الكلاب الضالة"، الذي أطلقه "الأخ العقيد" على المعارضة الليبية الخارجية، التي انضم إليها الجنرال خليفة حفتر، بعد انفصاله عن القوة العسكرية التي أرسلها "أمين الأمة" لتحرير تشاد المجاورة، والتوجه كلاجئ سياسي إلى الولايات المتحدة.

كان القذافي، الذي انتهى نهاية لا يتمناها الإنسان لا لصديق ولا لعدو، يفتخر بأن ليبيا ليست دولة، إنما "جماهيرية"، وأنها بلا جيش. وبالطبع، فإنها كانت دولة مخابراتية أكثر ظلماً واستبداداً من دولة عيدي أمين دادا.

وحقيقة، إن هذا كله هو ما جعل هذا البلد العريق الطيب يتأخر كل هذه السنوات الطويلة في "لملمة نفسه"، واستعادة كيانه، قبل أن يُبتلى باللجان في كل مكان. ويبدو أن هذا المصير ينتظر سورية، إنْ بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه الذي تسير فيه الآن.