المتابع والمتذوق لتاريخ الفلسفة الحديثة يدرك أن قلة هم الذين سطروا العلوم والتاريخ تحت مظلة الفكر الفلسفي، وقد اخترت الفيلسوف "كانط" لأكتب عنه بعدما تربع على عرش أقسام الفلسفة ومطبوعاتها، بل العلاقات الدولية أيضا، ولمَ لا؟ فهو الذي أعاد تعريف الأجندة الفلسفية الحديثة، متسائلا عن النظريات العلمية وفحواها والخريطة الذهنية لها.

ومن خلال عدسة مكبرة لحياة هذا الفيلسوف وصف الكاتب ألن وود الفيلسوف كانط بالعبقري الذي تعددت دراساته وتنوعت، وقد أفنى أعواما عدة للحصول على الأستاذية، إذ لم تكن آنذاك قوانين تمنع التنوع في التخصصات وتضع قيودا على مدة الدراسة.

Ad

فلسلفة كانط أحدثت مدى واسعا من الجدل حول القضايا التي أحاطها بفكره ورؤيته وأولاها اهتمامه، فقد نشأ في منطقة مطلة على ميناء بحري في شرق روسيا احتضنت مدارس النخبة، ومن لم يمتلك أجرة التعليم فقد وجد الميناء بيئة وظيفية إجبارية له، وبمساعدة مالية ابتدأ رحلته الأكاديمية، واختار دراسة الأدب اللاتيني في بداية طريقه الدراسي، فاقتبس من الشعراء وترك بصمته معبرا عن فكره وتحليله.

ثم استمر في مسيرته التعليمية التي وصفها الكاتب "وود" بالبطء الشديد، ورغم ذلك فقد أتم رسالته للماجستير، ونشر دراسة مفصلة لأبحاث تناولت الاحتراق والكهرباء، وغلب طابع العلوم الطبيعية والفلك والجيولوجيا على دراساته آنذاك، بعدها عاد إلى الجامعة فنال درجتي المدرس والدكتوراه في الفلسفة.

ورغم عمله محاضرا دون أجر فإنه استطاع أن يصبح أول من يطرح فرضية أصل النظام الشمسي، رغم انشغاله في تأملاته الفلسفية النقدية في أسس المعرفة، ولم تمض سنوات حتى جذبت مؤلفاته قراء الفلسفة ومحبيها. ومما سبق أخي القارئ نستنتج أن بيئة الإبداع لا تعرف القيود والبيروقراطية، وأنه رغم التطور البطيء لحياة الفيلسوف كانط الأكاديمية واختياره أن يجمع العلوم بالآداب فإنه أصبح من رواد الفكر والفلسفة، فكل ما في الأمر أنه أدرك تطوره الذهني جيداً، واستوعب الأنساق الفكرية للعلوم، ورغم توافر كراسي الأستاذية آنذاك بجامعة كونريدج 1758 فإنه اختار أن ينتظر حتى كتب أطروحته باللاتينية، وتقدم بها للأستاذية بعنوان "في أشكال ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول".

قاد بعدها الفلسفة النقدية، وانهمك بعمل فلسفي اعتبره الفلاسفة عظيما بعنوان "حدود ملكة الإحساس وملكة العقل"، وعشق السفر، وكتب في أدب الشعوب وأسس المعرفة العلمية والقيم الأخلاقية، ورغم قلة عدد الأوراق التي كتبها عن عصر التنوير فإنه اشتهر بها وبفكره المتحرر الذي لا يعرف الحدود، وفي التنوير يقول إنه "لا يرجع إلى التعليم أو العناية بقوانا العقلية، بل إلى الشجاعة والتصميم على أن نفكر لأنفسنا، وأن نتحرر من الانسياق وراء التقليد والتحيز".

ويحرص على تعزيز فكرة التآلف مع شخصية الفيلسوف بواقعية وقراءة نقدية لا بعين البطل الأسطوري، أما صفاته الشخصية فيقال إن له سمات جذابة وأخرى غير جذابة على حد تعبير الكاتب ألن وود، فقد كان لاذع النقد، وكان يختلف مع أصدقائه فيقاطعهم قطيعة مفاجئة.

أخيرا وليس آخرا فقد تجاوز هذا الفيلسوف العوائق والحواجز ليثبت أن قطار العلم والمعرفة لا يعرف القيود، وأن الإبداع البحثي لا يقاس بعدد الصفحات والسطور، ولنا وقفة أخرى مع فلاسفة آخرين في المقالات القادمة.