مساء الأحد الماضي، أطلق رجل أميركي أبيض، يبلغ من العمر 64 عاماً، النيران على مرتادي حفل موسيقي في مدينة لاس فيغاس الصاخبة، فأوقع نحو 58 قتيلاً و500 جريح؛ لكن هذا الرجل لم يوصف حتى الآن من قبل السلطات الرسمية أو وسائل الإعلام الكبرى بأنه "إرهابي".

حتى كتابة هذه السطور، لم يكن بوسع أي جهة أن تعلن دوافع الهجوم الكارثي الذي شنه ستيفن بادوك على مواطنيه، ورغم إعلان تنظيم "داعش" الإرهابي تبني العملية، فإن أحداً لم يأخذ هذا الأمر على محمل الجد، بالنظر إلى نفي انتماء القاتل إلى أي تنظيم من جانب، وسجله العقائدي الخالي من أي إشارة واضحة إلى تبنيه أيديولوجيا توفر ذرائع لممارسة العنف من جانب آخر. ما يتوافر لدينا حتى الآن بخصوص هذا القاتل ليس إلا أنه رب عائلة، وجد لأطفال صغار، ومحاسب سابق، ومقامر اعتاد خسارة أمواله على موائد القمار.

Ad

ربما لن يكون بوسع أي جهة أن تحسم الدوافع التي كانت وراء ارتكاب بادوك هذه الجريمة الشنعاء، لكن على أي حال، فإن أحداً لم يكن بوسعه بعد سبعة أيام من البحث المكثف أن يلصق هذه التهمة بالإسلام، أو بالإرهاب المستند إلى ذرائع دينية؛ وهو أمر يضع الرأي العام الغربي في مأزق، ويجبره على إعادة التفكير في الأسباب التي يمكن أن تدفع أحداً لممارسة القتل الجماعي، بعيداً عن استسهال اتهام الإسلام والمسلمين.

يمكننا أيضاً أن نقول إن حياة بادوك لم تكن مستقيمة أو خالية من التعقيد، وأنه ربما أفرط في لعب القمار وخسارة أمواله في "كازينوهات" المدينة المزدهرة التي تعد أهم معقل لممارسة هذه اللعبة في العالم.

ويمكننا أيضاً أن نؤكد أن بادوك استطاع أن يوفر أسلحة نارية سريعة الطلقات، وأن يدخل بها إلى غرفته في أحد فنادق الدرجة الأولى، وأن يوفر ذخيرة كافية لإدامة استهداف مرتادي الحفل الغنائي المنكوب، وأن يزرع الكاميرات على باب غرفته، لكي يتأكد من أحداً لن يقتحمها ويكشف أمره، أو يعوقه عن إتمام مهمته.

يشكل حادث "فيغاس" إحباطاً لكثيرين ممن اعتادوا استسهال إلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين من جانب، والتعريض بكثير من التأويلات الدينية الإسلامية، وكتب التراث، واعتبارها منبعاً للفكر المتطرف الذي يؤدي إلى العنف من جانب آخر.

في فبراير الماضي، كان شيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب يتحدث في مؤتمر "الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل"، في أحد فنادق القاهرة، محاولاً الدفاع عن صورة الإسلام، بعدما راح كثيرون يوجهون سهام النقد والاتهام له باعتبار أن معظم العمليات الإرهابية التي يسمع عنها العالم راهناً يتم إلصاقها بالمسلمين ودينهم.

قال الإمام الأكبر بوضوح: "لقد مرت بسلام أبشع صور العنف المسيحي واليهودي في فصلٍ تامٍ بين الدِّين والإرهاب، ومنها على سبيل المثال: اعتداءات مايكل براي بالمتفجرات على مصحات الإجهاض، وتفجير تيموثي ماكْفي للمبنى فضلاً عن الصراع الديني في أيرلندا الشمالية، وتورط بعض المؤسسات الدينية في إبادة واغتصاب ما يزيد على مئتين وخمسين ألفا من مسلمي ومسلمات البوسنة، وتفجير مبنى حكومي بأوكلاهوما، وديفيد كوريش، وما تسبب عن بيانه الديني من أحداث في ولاية تكساس". لم يرد شيخ الأزهر من تلك الجردة أن يغمز من قناة أتباع الأديان الأخرى، أو أن يتهمها بالإرهاب، وبأنها تحوي توجيهات بالتمييز والكراهية ضد كل من يتبع ديناً سواها، ولكنه أراد ببساطة أن يوضح أن الإرهاب لا يرتبط بدين معين، وأن ذرائع أخرى تدفع الأفراد والجماعات ليكونوا إرهابيين، قد يكون الفكر الديني الفاسد والخاطئ بينها، لكنه بالتأكيد ليس السبب الوحيد، ولا حتى أهم الأسباب.

لقد كان تاريخ الإرهاب تاريخاً ممتداً وعابراً لكل العصور وكل الأديان، بحيث لا يمكن نسب الفكر الإرهابي إلى دين بعينه أو تأويل ديني بذاته. يقودنا هذا إلى محاولة تقييم الدور المحدد الذي يؤديه التأويل الديني، بما فيه ما يرد في كتب التراث، في تسويغ عمليات العنف والإرهاب؛ وهو الأمر الذي يطرح التساؤلات المهمة عن طبيعة الارتكاز الأيديولوجي للتنظيمات الإرهابية؛ مثل "داعش"، و"القاعدة"، والتنظيمات والدول التي تمارس العنف أو تشن الحروب توسلاً بالأيديولوجية الدينية، وهو اقتراب بحثي ضروري، لصلته الحتمية بالجهود التي يجب أن نبذلها في سبيل التصدي لتلك النزعات التخريبية.

إن قرار ممارسة العنف يُتخذ وفق "هيراركية" معينة، كما يرى بعض الباحثين المتخصصين، ولتبسيط الأمر فإن عملية اتخاذ هذا القرار يمكن أن تمر عبر مثلث، قاعدته تتضمن "البنية الأساسية" للقرار نفسه Infrastructure، أي الذرائع الأساسية للقرار والسلوك والممارسة، ويحددون تلك الذرائع في الإجابة عن السؤالين: لماذا نمارس العنف؟ وبماذا نمارس العنف؟

يرى هؤلاء الباحثون أن المصالح الشخصية للأفراد والجماعات، بما تتضمنه من مطالب أو مظلوميات أو اعتوارات نفسية واجتماعية تأتي على رأس الأسباب التي تدعو إلى اتخاذ قرار ممارسة العنف، ثم يتلوها السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، قبل أن تأتي القيم والأيديولوجيا في المركز الثالث.

لقد توافرت لبادوك البنية الأساسية لكي يتخذ قراره بشن الهجوم المسلح على مرتادي الحفل الغنائي؛ أي الذرائع الذاتية غير المتصلة بتصوره الديني، والسلاح والذخيرة التي ستمكنه من إيقاع القتلى والجرحى، وهو أمر يبدو كافياً جداً لقتل الضحايا الأبرياء، من دون غطاء عقائدي أو أيديولوجيا إجرامية.

يقودنا هذا إلى خلاصة جديدة تفرض التركيز على الأسباب المصلحية المباشرة وموارد العنف المادية بموازاة الاهتمام بالاعتبارات القيمية والأيديولوجية في تحليل دوافع الإرهاب. سيكون من الصعب جداً اصطناع تاريخ "إسلامي" أو "إرهابي" لبادوك، وحتى وصفه بأنه "ذئب منفرد" لا يعني بالضرورة أن العقيدة كانت وراء إقدامه على هذا العمل الإجرامي.

أما هؤلاء الذين رسموا صورة ذهنية قاتمة للإسلام والمسلمين، واستسهلوا توجيه الاتهامات لهم في أعقاب كل جريمة إرهابية، فسيكونون في مأزق حقيقي، بعدما صار لزاماً عليهم التفكير بأسلوب جديد عقب كل حادثة إرهابية.

* كاتب مصري