أكبر المعضلات لدى الشاعر وناقد الشعر معاً، هي كيف تبدأ القصيدة في كيان الشاعر. أعرف، دون التباس، أنها وليدةُ مخيلة ومشاعر وأفكار وأحاسيس هذا الكيان، دون فواصل بين هذه المصادر. لكنني لا أعرف، على وجه الدقة، كيف تنحدر منها على هيئة كلمات على الورقة. سأختبر معكم قصيدة قصيرة بعنوان "أجمَعوا أمرهم..."، تعود إلى 2004، نسيتُ مناسبة كتابتها، والدوافع التي وراء إملائها. وهي تبدو لي الآن، كما ستبدو لكم، على قدر من الغموض والغرابة:

Ad

نحنُ لمْ نكترثْ بهمُ يوم حلّوا بيننا.

كانت المدينةُ تقضي

وطراً هانئاً مع النفسِ، أو تزهدُ عن نفسِها إذا ما تشاءُ،

وكأنا عنْ فطرةِ حكماءُ!

يصلُ النخلُ ساعةَ الليلِ ظلماءَ بأُخرى مضاءةٍ في النهارِ.

إنه عُضوُنا الأصيلُ، وكم عشنا عصوراً بألفِ عضوٍ مُعارِ!

ثمَّ حلّوا،

لمْ نكترثْ يوم حلّوا، وأقاموا، فلمْ يرُعنا البقاءُ.

رقدوا في اللثام، من غير أن تكشفَ هالاتُ حُلمِهم عن سِرارِ

غيرَ همس أعمى، يحاولُ ظلماءَ فيلتاثُ في شِباكِ عِثارِ.

لهمُ في ظلالنا مرتعُ الآمنِ، حتى إذا دنا الإمساءُ

"أجمعوا أمرَهم عشاءً، فلما أصبحوا أصبحتْ لهم ضوضاءُ".

الوزن من بحر "الخفيف": "فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن"، وهو ليس من البحور الصافية، التي يعتمدها الشعر الحُر. فالأخير يفضل تكرار تفعيلة واحدة مرتين أو ثلاث أو أكثر. استخدام تنوع في التفعيلة قد يشكل صعوبة في توفير سياق تلقائي للقصيدة الحرة الحديثة. لكن قصيدتي حاولت هذا عن قصد غير واضح. والقصيدةُ حاولت أيضاً لغة كلاسيكية، وكأنها تسعى إلى شيء من تفاعل مع البحر الخفيف. والقصد في هذا غير واضح هو الآخر.

المشهد يحدث في مدينة هانئة منسجمة مع ذاتها، ومتواضعة حدَّ أن تتنازل، حين ترغب، عن هذه الذات. تعتمد النخلَ، "عضوها الأصيل"، الذي يُسلمها من عتمة الليل إلى إضاءة النهار، بعد أن خبرت أعضاءً مُعارة كثيرة. وفجأة يدخل الرجالُ الملثّمون، فتستقبلهم المدينةُ عن دون إحساس بالضيق. في الليل ينامون بلثامهم؛ حتى أحلامَهم بدت للمتحدث خرساء لا تكشف عن سر، بل تبعث همساً غامضاً يتعثر في شباك الظلمة. إلا أنهم في السر كانوا يُعدّون لأمر عشاءً، ومع الفجر ضجّتْ ضوضاؤهم.

ما هي المدينةُ، من هم الملثمون، وما يعني اللثامُ، والنخلُ، والأمرُ الذي يُعدّون له، ومعنى الضوضاء؟ المتحدثُ داخل القصيدة ليس صوت الشاعر بالتأكيد. إنه أحد أبنائها، وقد استخدم بيتاً من معلقة الحارث بن حلِّزة لا عرَضاً، بل ليصبح عمادَ الحدث كله. لا أعتقد أن قارئاً، وأنا ضمناً، يملك أن يطمئن إلى معنى محدد للقصيدة. حين أعاود قراءة القصيدة بعد زمن، أجدني أجتهد في التأويل، حدَّ أن يغيم بي الاجتهادُ ذاته. قد تظهر بغداد بنخيلها، وبكل ما تعرّضت له من أذى، في واجهة الاجتهادات. ثمة وجه للموت فيها يقتحم الكائن الإنساني الآمن، أو خبرٌ مخيف، على المستوى الشخصي أو العالمي أو الكوني، مُترصّد يوشك أن يُفضحَ... إلى آخر الاجتهادات المُحتملة.

ما أذكره شخصياً، هو أن الرؤيا بمجملها ولدت تحت وقع بيت توقفتُ عنده، وأنا أقرأ معلقة الحارث بن حلِّزة. يحدث لي ذلك مع أبيات بعينها، أجدها بالغة الغموض والعمق، وسط قصائد أقرأها من الشعر القديم أو الحديث. أذكر منها بيتاً لأبي العلاء:

وبصيرُ الأقوامِ مثلي أعمى فهلمّوا في حِنْدسٍ نتصادمْ

وبيتاً للجواهري من قصيدته الهمزية "أتعلم أم أنت لا تعلم...":

أرى أُفُقاً بنجيعِ الدماء تغوّرَ، واختفت الأنجمُ

أو بيتاً للسياب يخاطبُ فيه جدّتَه من سرير المستشفى: "وبين سريري المبتلِّ حتى القاع بالأمطار/ وقبرِك تهدرُ الأنهار". وصورة للبريكان يقول فيها: "على حافةِ العالم المتجمدِ تأبى الخيول/ ذهاباً، وتنكفئ الأشرعة".

مصادر إلهام القصيدة تعود إلى اللغة: في إيقاع الكلمة، موسيقاها، وقع الصورة الخيالية التي تنطوي عليها، ما تبعثه في الذاكرة، أو العاطفة، أو الحواس. وقد تلتقط ذاكرة الشاعر، فيما بعد، تلك الكلمة أو الصورة في اللغة، لكنها ستعجز بالتأكيد عن أن تُحيط بالشبكة التي أسهمت في حياكتها الحواس، والعاطفة، والذاكرة، والمخيلة في داخله.