ما معايير اختيارك شعراء وشاعرات كتابك الجديد «شعراء مصر المعاصرون»؟

اخترت عنواناً شجاعاً، فيه قوة وجرأة، وبالطبع لم أقصد شعراء مصر كلهم، ولكن قيدته بكلمة مختارات، التي حددت الاختيار وقننته، فكان الاختيار من الشعراء المغمورين، لأن المشهورين تُفتح لهم الأبواب من دون استئذان، وهم قادرون على فرض أنفسهم على النقاد، ووسائل النشر والدعاية بلا مشقة. أما هؤلاء المغمورون الذين لا يطرقون أبواب أحد، فليس لهم أحد ينصفهم، وربما طبع أحدهم ديوانه مقطعاً من قوت أولاده، وربما لم يطبع أحدهم ديوانه أصلاً، مكتفياً بنشر قصيدة في مجلة أو جريدة مجاناً. لذا كان الاختيار منصباً على هؤلاء الشعراء المغمورين، عن قصد، وحسن نية، ولم يطلب مني أحد منهم الكتابة عن تجربته، بل كنت البادئ بطلب القصيدة، أو باحثاً عنها في المجلات أو الجرائد ومن النماذج التي اخترتها محمد أحمد إسماعيل، وهبة عبدالوهاب، وشيرين العدوي، وحنان الصناديدي، ورنا العزام.

Ad

تحدثت عن عناصر الإبداع الفني عند حنان الصناديدي، فمتى يصل الشاعر إلى مرحلة الإبداع؟

الشاعرة د. حنان الصناديدي مصرية معاصرة، تخرجت في كلية دار العلوم بالقاهرة، عام 1995. صدر لها الديوان الأول «آنست نارا»، عن مؤسسة روائع عام 2016، وهو ديوان مهم في الشعر المصري المعاصر، لأنه سيكون له وقع السحر على الذائقة العربية في المستقبل القريب. من جهتي، أراهن بكل ما أملك من رصيد نقدي وأدبي على بلوغ صاحبة الديوان إلى أعلى درجات الشعرية الحديثة، وأن تاريخ النقد العربي سيقف طويلاً إزاء منجزها، وربما فاقت أترابها رشاقة لغوية وفنية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات، فرغم أنه الديوان الأول لها فإنه يصنف فنياً بأنه من أجود ما صدر في السنوات المنصرمة، وعلى عين الناقد أن تلقف مثل هذه الأدبيات الراقية بعين الإنصاف وتتولى مسؤوليتها المنوطة بها وترصد رقي العمل الفني بما هو جدير به، فما أنا إلا عين واحدة تنظر في قطعة بلور فترى ما ترى، تاركة للآخر تناول ما يراه أيضاً من رؤى وتشكيلات فنية.

تمرّد

إلى أي مدى يمكن أن يكون التمرد والرفض مقبولاً بالنسبة إلى الشاعر؟

بعد قراءة أعمال الشعراء المصريين بدا المشهد الشعري المصري مربكاً، وقلقاً، ومتوتراً، فرغم كثرة الأصوات الشعرية البادية على الساحة الثقافية المصرية فإن معظمها متشابه، وقلما تعثر على صوت متفرد له خصوصيته المميزة، فالأصوات المتشابهة حالمة، وموغلة في الرومانسية، وأحادية الرؤية غالباً، ومسالمة، فلا تقبل تعدد الألوان، ودائماً بيضاء أو سوداء، لا تميل إلى الرمادي، لون القلق والتمرد والرفض وعدم الاستسلام للواقع المفروض عليها. وللأسف، فإن الشعراء ذوي الرؤية الأحادية سرعان ما تشعر مع نصوصهم بالملل، مع توقع استراتيجية النص، ومضمونه، حتى نهايته، فلا قلق، ولا توتر، ولا رفض، فدائماً هم مستسلمون للأحداث، غير فاعلين فيها، ولا مشتبكين معها. أولئك هم الشعراء الضعفاء، أما الشعراء متعدد الرؤى فإنهم يشتبكون مع الواقع، باحثين عن هاجس خاص، أو نبرة مميزة، رؤاهم تدعو إلى الثورة على كل قانع، وخانع، ومستسلم، ووجد في المشهد المصري المعاصر أولئك وهؤلاء، وتستطيع أن تميزهم في نصوصهم بوضوح.

تناولت في كتابك إغواء الصوفية عند رنا العزام، فهل يجب أن يكون لدى الشاعر القدرة على إغواء المتلقي؟

من يظن أن المتلقي أقل منه وعياً بعملية الإبداع فقد أخطأ في حق نفسه أولاً، وحق الفن الذي يتبناه ثانياً. القارئ أشد وعياً ودراية وتمرساً... وعلى المبدع أن يقدره ويجعل منه مشاركاً في عملية الإبداع. والمبدع الحق يعي حق القارئ الضمني، وما دمت ذكرت الشاعرة رنا العزام فإن لها ديوان «صوفية في الحانة» والعنوان خادع ومراوغ، والحق أن كلمة الصوفية بمعناها العميق تختلف عن الكلمة التي عبرت الشاعرة عنها في عنوان الديوان (صوفية في الحانة) وتعني نفسها. فالصوفية مذهب عقائدي تحوَّل إلى مذهب شعري لدى شعراء القديم والحديث معاً، ووقفنا على الظاهرة الصوفية في شعر أحمد الشهاوي كمدخل لدراسة الظاهرة الصوفية بوصفها ظاهرة أدبية متأصلة. أما الظاهرة الصوفية التي أغوت الشاعرة بها في العنوان فلم نجد فيها شيئاً من الظاهرة الأدبية المعروفة لا في القديم ولا في الحديث، ولكنها اكتفت بالكلمة للتعبير عن أن لها اتجاهاً مميزاً لشعرها، ووصفت نفسها بالدرويشة، وهو لفظ استعاري عارٍ من المدلول الفعلي للكلمة، فقصائد الديوان تخلو من الصوفية بالمعنى الفعلي للظاهرة.

التناص الشعري

كيف ترى التناص في الشعر العربي الحديث؟

«التّناصّ» مصطلح نقدي حديث، يُعنى بالعلاقات المكونة للنص الأدبي، المؤثرة فيه فنياً، ومعنى هذا المصطلح كما جاء في معجم الدكتور محمد عناني هو العلاقة بين نصين أو أكثر، وهي التي تؤثر في طريقة قراءة النص المتناصّ، أي الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى أو أصداؤها، من ثم فالتناص هو أن يلحظ القارئ علاقات بين عمل وبين أعمال أخرى سبقته أو جاءت بعده.

والتناص في الشعر العربي الحديث كان منقذاً لكثير من الشعراء، كان بمنزلة الحل السحري لتمرير بعض القصائد، ولولاه لخرجت نصوص كثيرة من دائرة اهتمام النقاد والباحثين. فقد عرف النقد القديم مفهوم هذا المصطلح تحت باب السرقات الشعرية، ويكفي الاسم لعد النص المتناص بالمعيب.

واستفاد شعراؤنا من التناص بنوعيه السافر والتكويني، والأخير كما يقول نورمان فيركلف «هو تشكيل الأعراف الخطابية التي تستعمل في إنتاجه»، والأولوية التي أوليتها لنظم الخطاب تؤكد التناص التكويني. أما التناص السافر فيعني الوجود الصريح لنصوص أخرى داخل النص قيد التحليل، وهي سافرة لوجود علامات واضحة تدل على سطح النص، كعلامات التنصيص، ومن الممكن للكاتب أن يستجيب إلى نص آخر بالطريقة التي يصوغ بها نصه.

ما تقييمك للمشهد الشعري العربي عموماً والمصري خصوصاً؟

عالجت القصيدة المصرية موضوعات الثورة المصرية، وبدت المعالجة متقدة، تدعو إلى الرفض وعدم الخنوع، متخذة من المتلقي يداً مساعدة، تنير له الطريق، وتبدل خوفه أمناً مؤقتاً، من خلال تساؤلات وجودية تفرضها اللحظة الآنية، عن الكون والوجود والاضطراب الكائن والفوضى المنتشرة، تساؤلات تهدي وتبشر بالخير في الغد، وليست تشاؤمية ومنغلقة. كان معظم قصائد الثورة نصوصاً مفتوحة، غير منعزلة عن وجودها وكياناتها المؤسسة للبيئة، ومن الموضوعات التي عالجتها القصيدة المصرية الصوفية ومدى توغلها في ضمير الشعراء، فبدت سطحية، وأحادية النظرة، لا تعبر عن روح الصوفية وعمقها، فليست الصوفية ألفاظاً تلوكها ألسنة الشعراء من دون تغلغل في التجربة. كذلك عالجت القصيدة المصرية معاناة الفرد داخل الجماعة، وبدا القلق والتوتر في عدم الرضا عن الأمور، واقتربت القصيدة المصرية كثيراً من العزلة والانغلاق على الذات، متخذة هيمنة الشعر وسطوته، فلجأت إليه هروباً من الواقع المرير، ونسجت خيالها بأيديها لتعيش فيه، فبدا التناقض جلياً في بعض القصائد بين حياة الفرد الحقيقية وحياته الفنية، فليست البسمات دائماً دليل سعادة ورضا، ولا الأحزان برهان ألم وعذاب، ولا التعبير عن الحالة الدينية دليل ورع وتقوى!

والشعر المصري فرع من الشعر العربي، ويبدو أن اهتمامات كل قطر عربي تختلف عن اهتمامات الآخر في معالجة الموضوعات الشعرية، أما البنية الفنية فتكاد تكون واحدة.

ما مشروعك الأدبي الذي تعد له راهناً؟

أعكف على استكمال الجزء الثاني من المشروع الشعري الضخم «شعراء مصر المعاصرون».

التمرّد اللغوي

يرى أستاذ الأدب العربي في كلية الفارابي بالمملكة العربية السعودية الدكتور أحمد فرحات أن «التمرّد اللغوي يكون مقبولاً من الشاعر أو القاص أو الأديب عموماً إذا كان في ذهن هؤلاء أثناء عملية الإبداع محاولة التجديد وإضافة مفردات جديدة في سياقات معينة تطويعاً لها في إفادة اللغة وتطورها، فالشاعر الذي يُدخل (أل) التعريف مثلاً على المضارع، أو يحرك بعض الأسماء الجامدة في محاولة اشتقاق بعض الأفعال منها، أو يعدي بعض الأفعال بواسطة حروف الجر... كل هذا يكون مقبولاً ما دام يشكِّل لها سياقاً معيناً، وهو بذلك يضيف إلى اللغة ويطوعها في محاولة تطويرها وتجددها».