يقول المولى عز وجل "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، ويقول سبحانه مخاطباً رسوله، صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة"، ويقول الإمام أبو مسلم الخولاني "إذا عدلت مع أهل الأرض جميعا وجُرت في حق رجل واحد فقد مال جورك بعدلك".

Ad

عوار دستوري في الإجراءات الجنائية

ولكن لقانون الإجراءات الجنائية الذي مضى على صدوره أكثر من نصف قرن رأيا آخر ومبادئ مختلفة، فكرامة الإنسان فيه مهدرة والحرية الشخصية غير مصونة وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه غير مكفول، وأي بلاغ يقدم ضد أي إنسان يجد طريقه السريع إلى المحكمة، التي تقضي غيابيا بحبسه سنة أو أكثر، لأنه لم يبد دفاعا في تحقيق أمين الشرطة أو أمام المحكمة، لأن إعلانه في الحالتين يتم لاستيفاء الشكل القانوني دون المضمون.

فإذا علم المتهم بمثل هذا الحكم القاضي غيابيا بحبسه لإدانته في جريمة من الجرائم التي قد تكون مخلة بالشرف والأمانة، فإنه يجد باب المعارضة في الحكم لإلغائه والحكم ببراءته موصدا، إذا كانت العقوبة المحكوم بها قد سقطت بمضي المدة، فبهذا تجري نصوص قانون الإجراءات الجنائية في مصر وهو المصدر التاريخي للقانون الكويتي.

فالقانون لا يعرف أن هذا الحكم الذي قد يكون في جريمة مخلة بالشرف والأمانه وقد جرد المتهم من شرفه وأمانته يبقى سيفا مصلتا عليه، فلا يقتصر على الحط من قدره في المجتمع بين من يعرفونه من الناس وفي عائلته وأسرته وحرمانه من حقوق يستمدها من الدستور والقانون، بل سيحط من قدره بما سيتداوله الناس عن سوء سيرته بسبب هذا الحكم، إذا كان شخصية عامة.

وهو ما يتعرض له كثير من المغتربين بعد عودتهم إلى البلاد بصفة نهائية أو بصفة مؤقتة، عندما يستخدمون حقا من حقوقهم الدستورية أو القانونية، فيعلم المغترب أن حكما غيابيا صادرا بحبسه في جريمة مخلة بالشرف والأمانة، يحرم بمقتضاه من استخدام هذا الحق أو ذاك، رغم سقوط العقوبة بمضي المدة، لأنه استنفد غرضه بتلويث سمعته.

القضاء يطبق روح القانون

ولكن قاضيا جليلا هو السيد المعتصم بالله أنور الجبالي رئيس محكمة النزهة بمصر الجديدة، كون عقيدته ببراءة المتهم المغترب الذي قضى حكم غيابي بحبسه لمدة سنتين لاختلاسه مال الغير بتسلمه مالا سلم إليه بإيصال أمانة لتوصيله إلى شخص آخر.

فقد قضى بقبول المعارضة في الحكم، وكانت محكمة النقض المصرية قد سبقته إلى ذلك عندما قضت بأن باب المعارضة يظل مفتوحا طالما أن المتهم لم يعلن بالحكم الغيابي (الطعن رقم 68 لسنة 98 ق- جلسة 12/12/1998 و58 لسنة 38 ق- جلسة 6/5/1968).

إلا أن القاضي الجليل، وقد كون عقيدته ببراءة المتهم، فإنه لم يجر بما استقرت عليه أحكام المحاكم من القضاء في هذه الحالات بانقضاء الدعوى الجنائية، بل قضى ببراءة المتهم، فسن بذلك مبدأ جديدا حماية للعدالة ولكرامة الإنسان وحقه في الدفاع، وهو أصل الحقوق والحريات جميعا، وأن الأصل هو براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي وباتّ في محاكمة عادلة ومنصفة، مستلهما ذلك من مبادئ ديننا الحنيف التي جاءت نصوص الدستور تجسيدا لها، ومن روح النص التشريعي، فالنصوص الإجرائية غايتها حماية العدالة والانتصاف من الذين يجرمون في حق المجتمع لا تلويث سمعة الإنسان وكرامته.

فالنصوص الإجرائية إنما وضعت وشرعت لينال المتهم محاكمة عادلة ومنصفة، فإن قصر النص التشريعي عن تحقيق ذلك، فإن روح النص هي التي يجب أن يستلهمها القاضي.

تحية إلى هذا القاضي الجليل

هذا القاضي يصدق عليه ما قاله شيخ القضاة المستشار الراحل عبد العزيز باشا فهمي الذي كان أول رئيس لمحكمة النقض في الثلاثينيات من القرن الماضي عندما عرف القاضي بأنه من اتسع صدره حيث تضيق صدور الآخرين، فقد أفسح القاضي صدره لدفاع المتهم بعد أن طعن المتهم في إيصال الأمانة بالتزوير، فكلفته المحكمة بإعلان صاحبة البلاغ ومحاميها بالحضور وتقديم أصل إيصال الأمانة، لاتخاذ إجراءات الطعن عليه بالتزوير، ولم يحضر أي منهما، كما لم يمثلا أمام المحكمة عندما أصدرت حكمها الغيابي بالحبس، فأصدر حكمه بجلسة 5/9/2017 ببراءة المتهم، فأرسى بهذا الحكم مبدأ جديدا يعزز قرينة افتراض البراءة في الإنسان التي نص عليها الدستور، ويجعل حماية العدالة هي أسمى الغايات وأنبلها قصدا.

وتبقى مصر بخير

ستبقى مصر بخير طالما فيها مثل هذا القاضي الجليل، إذ يُروى أن الزعيم البريطاني تشرشل ورئيس الحكومة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في اجتماعه بمجلس الوزراء، وعندما كان يسأل الوزراء عن أحوال البلاد، بعد أن دكت طائرات المحور المدن البريطانية وشمل الدمار المدارس والمستشفيات والمصانع وكل مرافق الدولة، فأجابه كل الوزراء بأن الأمور في الحضيض، وأنهم سيبدؤون من الصفر، عدا وزير العدل الذي قال له: القضاء بخير فعقب على ذلك تشرشل: طالما أن القضاء البريطاني بخير فبريطانيا بخير، وأنا أقولها كذلك بعد الحصاد المر لثورة الربيع العربي، الذي تناولته في مقالي الأحد الماضي.

ولا يفوتني أن أشير إلى أن وقائع هذه القضية هي تجربة شخصية لي، عندما حال الحكم سالف الذكر بيني وبين تجديد شهادة صادرة لي من الأمن العام بإعفائي من حمل ترخيص بحمل سلاح، والتي صدرت لي، عام 1962، عندما كنت قاضيا في مصر، وظلت تتجدد كل ثلاث سنوات إلى أن فوجئت بعدم تجديدها لصدور هذا الحكم، الذي لم أعلم به إلا عند سؤالي عن أسباب ذلك.

ولم تكن هذه القضية بالنسبة إلي قضية شخصية، ولم يكن تجديد شهادة الإعفاء من الترخيص بحمل سلاح يستحق عناء خوض أي معركة قضائية، وقد بلغت من العمر أرذله، ولكنها قضية الإنسان وكرامته وحريته الشخصية، والتي تستحق من أي إنسان أن يخوض معركة طويلة لإصلاح تشريعي ينقي الإجراءات الجنائية من العوار الدستوري الذي يشوب الكثير منها، وأعتبر هذا المقال خطابا مفتوحا إلى مجلس النواب وإلى المجلس القومي لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المعنية بهذه الحقوق.