شخصياً كنت أحد تلاميذ المهجر وأدباء المهجر، وفي ذلك الوقت لم يكن الأدب المهجري يحظى بمساحة كبيرة أو صغيرة في المنهج المدرسي المقرر على الطلبة. وكانت الصدفة المحضة، والتي قادتني في نهاية السبعينيات بأحد معارض الكتاب العربي في الكويت إلى كتب جبران وميخائيل نعيمة ومجموعة من الشعراء والأدباء الذين قدموا أدباً مغايرا للمدرسة الشرقية. والخلاف بين المدرستين كان يتسع حتى يصل إلى التصادم، وهذا ليس مجاله الآن.

ما يثير بأدب المهجر في ذلك الوقت، أن رواده اندمجوا في الثقافة الغربية بشكل كبير، وتأثروا بها، وأثروا فيها بمجموعة من الأعمال، سواء كتبت بلغة بلدانهم الجديدة، أو ترجمت من لغتهم الأم. والفضل الأكبر لهؤلاء الأدباء المهجريين، هو نقلنا من اتجاه مدرسي شرقي إلى مدارس غربية متعددة في الفلسفة والأدب. ولم تكن فترة السبعينيات كما هي الحال اليوم، حيث نعيش كثرة الأعمال المترجمة، واهتمام دور النشر العربية بترجمة أكبر عدد ممكن من الروايات وكتب الفلسفة والشعر، حتى وصل الأمر إلى التنافس بينها. ساهم في ذلك وجود عدد كبير من المترجمين الذين يتقنون لغات غربية متعددة.

Ad

المهجر الذي اضطرتنا الظروف السياسية والاجتماعية إلى دخوله، بديلاً عن أوطاننا، لم يكن مشابها للصورة النمطية التي كنا نعرفها عنه في البعد. فلم يعد الكاتب المهجري قريبا من قدرات جبران خليل جبران، ولا من ثقافة إدوارد سعيد وهشام شرابي. وعلاقته بثقافته العربية أقوى من علاقته بثقافة بلد المهجر، ومازال جمهوره في المشرق ودار نشره في المشرق، وليس له في مهجره سوى العزلة أو الوحدة في أحسن الأحوال. ورغم تدفق أعداد غفيرة من العالم العربي إلى دول المهجر، فإن علاقة هذه الجماهير بالعمل الثقافي تكاد تكون معدومة.

تنشط بعض الجهات العربية هنا في كندا، لتقديم كُتّاب روائيين أو شعراء، سواء من كندا، أو تستضيف كتاباً من دول غربية أخرى، لكنها تصدم من عدد الحضور، الذي يضنّ عليها بتذكرة رمزية لا تتجاوز ثمن شطيرة. هذا الجمهور العربي يملأ الصالات ويدفع عشرة أضعاف هذه التذكرة حين يعلن أحد المطاعم أو الملاهي عن استضافة فنانة أو فنان من الدرجة العاشرة.

هناك مجموعة من الجمعيات والروابط الأدبية والقلمية في المدن الكندية لا تجد الدعم من أي موسسة رسمية أو شعبية، ولا تدعمها الشركات العربية ورجال الأعمال العرب، رغم مساهمتهم الكبيرة أحيانا في إنشاء دور العبادة، سواء الإسلامية أو المسيحية.

في أجواء كهذه نتفهم ابتعاد الشباب العربي في المهجر، والذي لا يجد مركزا ثقافيا واحدا يمكن أن ينتمي له، مقابل عشرات دور العبادة التي تحتضنه وتجنده تحت ذريعة الحفاظ على الهوية الإسلامية للناشئة العرب، وكأن الهوية الثقافية هي النقيض للديني. والحقيقة، أن هذه الدور خرّجت مجاميع كبيرة من الإرهابيين والدواعش، وهو ما لا يمكن أن يفعله مركز ثقافي أو مجموعة أدبية.

هؤلاء الناشئة في المهجر بين حلين: إما اعتكاف ديني يؤدي في كثير من الأحيان إلى التطرف، أو الحرص على حضور حفلات هيفاء وهبي ورفيقاتها. هناك خلل في العقلية العربية، سواء عاشت في بلدها، أو هاجرت عنه، وهو خلل يحتاج إلى دراسة علمية لاكتشاف أسبابه.