برز اسم الكويت كوسيط في الأزمة الخليجية الأخيرة. أينما ذهبت تتابعني الأسئلة في اللقاءات الأكاديمية والمؤتمرات أو المنتديات أو الإعلام خارج الكويت حول وساطة الكويت.

وكأن الكويت فجأة قررت ودون سابق إنذار أن تلعب دور الوسيط في الأزمة الخليجية المؤسفة، بينما هو دورها الطبيعي بالمبدأ والتفاصيل، فإن أضفنا إلى ذلك وجود صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد على رأس الهرم السياسي، فذلك يضيف إليها خبرة ورغبة ذاتية وبعداً شخصياً؛ فـ"الكويت وسيطاً" هو نهج يحقق المصلحة العامة والذاتية، كما يعزز الأمن الوطني الاستراتيجي.

Ad

لماذا هي كذلك؟ ربما كان لطبيعة النشأة التاريخية والموقع الجغرافي ومعاناته السياسية دور في ذلك، ولربما كانت معاناة المؤسسين الأوائل وتنقلهم الدائم من وسط الجزيرة العربية إلى الزبارة في قطر، ثم إلى المخراق ثم أخيراً الكويت، دور في ذلك. فلكل محطة من تلك التنقلات قصة تروى ودرس مستفاد.

كان لاستقلال الكويت أيضاً دور؛ فقد شكك عراق عبدالكريم قاسم في استقلالها، ورفضت الأمم المتحدة عضويتها باعتراض الاتحاد السوفياتي مجاملةً للعراق، وأحدث قبولها في الجامعة العربية أزمة سياسية، وجرى إنزال جيش عربي في أكتوبر 1961 بدلاً من القوات البريطانية المرابطة في الروضتين. وقد زامن صاحب السمو كل تلك الأحداث منذ بدايتها، فكان هو من ألقى خطاب عضوية الكويت في الأمم المتحدة بعد رفضها مرتين، وكان ومازال سموه عنصراً فاعلاً في تعزيز الشخصية الوسطية للبلاد. وعندما تم قبول الكويت بالأمم المتحدة في مايو 1963 لم تتخذ موقفاً عدائياً من موسكو، التي قالت في الكويت أقاويل غير لائقة، بل عززت علاقتها، لا مع موسكو فقط، بل مع كل المنظومة الاشتراكية، بل كانت الكويت الدولة الوحيدة في الخليج التي لديها سفارات لتلك الدول، في المنطقة التي كانت تمنع مواطنيها من السفر إلى تلك الدول. بل شجعت الكويت دراسة طلبتها في الاتحاد السوفياتي، وانضمت إلى كتلة عدم الانحياز، واتخذت الحياد الإيجابي كمنهج، واندفعت مبكراً في برنامج المساعدات الاقتصادية غير المسيسة، فأسست الصندوق الكويتي للتنمية داعمة دولاً مختلفة الأنظمة السياسية، سواء أكان ذلك عربياً أو غير ذلك. بالطبع كان المجتمع السياسي الثقافي المنفتح نسبياً والدستور حاضنة واسعة لكل الآراء والأفكار والرؤى العربية التي تسمح بتعدد الآراء وتدعم الوسطية.

لدي في مفكرتي أكثر من 17 واقعة وساطة كويتية بعيدة وقريبة بمستويات مختلفة، الكثير منها ناجح والقليل منها لم ينجح، بعضها معروف وبعضها غير معروف، فدولة الإمارات التي لها ولأهلها مكانة كبيرة في بلادنا، لعبت الكويت دوراً رئيساً في تقريب وجهات النظر عند تشكيلها بدءاً من الاتحاد "التساعي" إلى السداسي ثم السباعي. وعندما تعرضت مسيرة الاتحاد لأزمة سنة 1976 ، والتي تردد وقتها أن سمو الشيخ زايد، رحمه الله، قدم استقالته، وهو الحريص على الاتحاد بسبب إحباطه من التباين الذي يفتت الوطن، سارع صاحب السمو الشيخ صباح إلى بذل الجهود لتقريب وجهات النظر، وكان لتلك الوساطة أن تنجح، ولكنها عادت بصورة أكثر حدة في 1979 ، وعادت الكويت مجدداً، مع صعوبة الظروف، ونحمد الله أنها نجحت في مهمتها.

لربما كان آخر تلك الأمثلة استقبال الكويت للأطراف اليمنية على أرضها، ولا تكمن الأهمية في استقبالهم، مع وجود ممثلين لعلي عبدالله صالح الذي كان معادياً للكويت أيام الغزو، ولكن الأهم هو استعداد الأطراف اليمنية للقاء في الكويت، على الرغم من أنها عضو في تحالف دعم الحكومة اليمنية، مما يدل على وضعها.

أن تكون الكويت دولة وسطاً ووسيطاً فذلك لم يبدأ مع الأزمة الخليجية الأخيرة، والتي نتمنى لها أن تنتهي على خير؛ فمن المستغرب أن هناك من يتعامل مع الكويت ووساطتها بخفة مخلة وجهل محزن.

دور الكويت كوسيط هو دور محمود ومطلوب، من كل الأطراف، بما فيها الكويت، ومحاولات التصيد والبحث عن الزلل، هي محاولات معنية بالإثارة واستمرار التصعيد، أما الكويت فمصلحتها تقتضي أن تلعب دوراً كهذا، وأتمنى أن تستمر في ذلك بذات الالتزام، فذلك مدعاة اعتزاز للجميع، بما في ذلك إخوتنا في الخليج، ومن هم خارجه.