الأشخاص ماضون والبلدان ماضية، أما الفن فهو خالد، باق ما بقي وعي يحييه على سطح هذه الأرض. حضارات شامخة ذهبت، رجال ونساء كانوا عظماء، اليوم ما بقي منهم سوى سطور في كتب التاريخ، أما الباقي المخلد فهو فنون أزمانهم، حيث أصبح فنانوها، بحكم مرور الزمن، هم حاكمو الحقبة التاريخية، هم من يعرفها ويثبتها في ذاكرة التاريخ. الكثيرون لا يعرفون شيئاً عن حقبة إخناتون، على سبيل المثال، ولكن لا أحد تقريباً يجهل الفن المصري القديم حين تقع عيناه عليه. هو حكم الزمن، بمروره تنقلب الموازين، ويصبح الفن هو الحاكم والساسة هم المحكومون، يقاضيهم الفن بتعابيره، يوثق أفعالهم وحيواتهم، يطلق عليهم أحكامه، ويرسل رسالاته الخالدة حول وجودهم الزائل الضئيل. سيكون الفن هو الأقوى وهو صاحب الكلمة الفصل، سيضحك الفن كثيراً لأنه سيضحك أخيراً، ذاك هو المصير المحتوم.

لذلك إن أردت إنتاج فن، في عصر أصبح فيه التوثيق بدرجة من السهولة والجودة ما سيبقى هذا الفن محفوظاً لملايين من الأجيال القادمة، فعليك أن ترفض دور فنان السلاطين، فهذا ما لن يغفره لك التاريخ وما سيتحول إلى مادة تندر للمستقبليين. أعلم أن كل همك زمنك ومصلحتك الآنية واقترابك من السلطة، ولكن صدقني يا فنان، ستخسر أبديتك الطويلة لصالح وجودك اللحظي على وجه الدنيا، ستعيش زمناً مهما طال فهو قصير، ستحياه لربما مرتاحاً ونقدك تحجبه بوابات الخوف وشبابيك التقية، لكنك سرعان ما ستتحول لتاريخ أبدي تلوكك خلال لا نهائيته الألسن "بالمفتشر" وبلا رحمة أو مغفرة.

Ad

إن كان ولا بد أن تصنع فناً مادحاً، فهذا له قواعده التي تبقي لك احترام جمهورك. إن أردت أن تغنيه لحناً يا حبيبي الفنان فافعل، ولكن غن لوطنك ولوطنيتك، لا تغن لأشخاص ولا تشتم أشخاصا فالتملق والشتم ليس مكانهما الفن الذي سيدرجه التاريخ خالداً رفيعاً، إن أردت أن ترسمه صورة فليكن، لكن لا تضيقها على شخص ولا تسخرها للتعبير عن ولاء، الفن أكبر ورسالته أعمق وأنبل، إن أردت أن تنحته تمثالاً فطوبى لك، لكن لا تصنع منه إلهاً تعبده، فالحقيقة أنك أنت صانعه وليس هو بصانعك، وليس أعمق حماقة من أن تنحت وجهاً لتعود فتؤلهه فيما بعد. الفن يا فنان لا تهدد به، لا تتعنصر من خلاله، لا تقمع بأدواته، الفن حرية ونبل وأخلاق ووحدة إنسانية، الفن توثيق، الفن تواصل ليس فقط مع الغير من البشر بل كذلك مع الغير من الأزمان، الفن تصنعه فيصنعك، تحترمه فيحترمك، تتملق من خلاله وتتذلل، تصور به قبلية أو طائفية أو عنصرية، سينقلب عليك، وسيضعك في الدرك الأسفل من التاريخ الذي لك في قصصه عبرة وتذكِرة، فتذكر.