لافت جداً الموقف الذي حصل قبل أيام في البرلمان الأسترالي عندما دخلت النائبة بولين هانسون بالنقاب الكامل بهدف استثارة المشاعر للضغط على البرلمان للتوجه نحو حظر النقاب في أستراليا. ليس الملفت هو التصرف الأدائي الرخيص بحد ذاته، بل إن الملفت هو رد النائب العام جورج برانديس الذي أكد أن "لا، لن نحظر البرقع" مستكملاً تعزيره لها بأنه لن يحاول غض البصر عن "التصرف البهلواني" الذي ارتكبته النائبة حضوراً للبرلمان مرتدية البرقع وهي المعروفة بعدائها للإسلام، واستكمل حديثه بصوت هزه التأثر قائلاً: "عليك أن تكوني حذرة جداً جداً قبل إهانة المشاعر الدينية للأستراليين الآخرين"، خاتماً بقوله "إن السخرية من مجتمع ما ومحاولة حكره في زاوية والاستهزاء بملبسه الديني هو أمر مروع وأدعوك للتفكير فيما قمت به".

اللافت في هذا الموقف هو هذا التمسك الغربي الصارم بمبادئ الحريات واحترام الأديان، وهو موقف ما نما انطلاقاً من نزعة خيرية غربية خاصة أو بسبب من حسن الأخلاق أو بتأثير من جودة التعليم وغيرها مما قد يهذب المجتمع ويعلي أداءه. بالطبع الأخلاق الرفيعة التي هي في الواقع نتاج التعليم المتطور كلاهما يسهمان في تشكيل المنظومة الأخلاقية التي ينتهجها المجتمع، ولكن المؤثر والمُشَكل الأول في الحالة الغربية هو التاريخ الدموي الطويل الذي أسس لقدسية مبادئ حرية الاختيار وحرية التعبد واحترام الآخر المختلف وغيرها من المبادئ الليبرالية العلمانية المتحضرة. لقد تعلم الغرب درساً دموياً قاسياً لن ينساه، وهو لن يتخلى عن الدروس ويبدد تضحيات السابقين الذين أوصلوه لهذه الدرجة من الاستقرار بالتفاعل مع أي مشاعر نيئة غير مدروسة عداء مع أصحاب هذا الدين أو ذاك، حتى لو كانوا أصحاب الدين الموصومين بشكل أكبر في هذا الزمن بالأعمال الإرهابية المرعبة. لا يتخلى الغرب عن مبدأ الحياد واحترام الآخر ليس لأن الغرب مبدئي وخيّر ومصنوع من عجينة غير العجينة الشرقية، ولكن لأن دروسه التاريخية القاسية وتضحياته الشديدة الدموية ما تركت له خياراً سوى هذه الرفعة الأخلاقية. يفهم الغرب اليوم، وعن تجربة، أن أي استسلام لنزعة كراهية أو تخل عن مبدأ احترام الاختلاف لن ينتهيا إلا بعودة مكوكية للخلف العنيف البشع، ولهم ولنا في أحداث أميركا الأخيرة، حين تجاوبت ولو بشكل بسيط مع تصريحات رئيسها العنصرية، أفضل وأبشع مثال.

Ad

لا يتعامل الغرب مع مواضيعه من منطلق المعاملة بالمثل، لا يتفاعلون مع قضايا المسلمين في بلدانهم انطلاقاً من تعاملنا مع قضايا غير المسلمين في بلداننا، فالموضوع ليس ثأراً ولا هو مفهوم "وحدة بوحدة" الغبي بالنسبة لهم. الموضوع هو تمسك بمبادئ دفع الغرب من أجلها الكثير، هو فهم عميق لحقيقة أن هذه المبادئ، وإن صعب تنفيذها وثقل حسابها، هي التي ستنقذهم وتحل الاستقرار والأمن والأمان في بلدانهم. هكذا يقف الحكومي المحترم، السياسي المحنك، الإنسان ذو المبدأ الذي لا يسمح للتكسب السياسي أن يجرده من كل قيمه، المشرع الذي يعرف تأثير كلمته على شعبه، الذي يفقه تأثير تجاوبه مع لغة الكراهية والتمييز وتحقير الآخر على الجموع التي تشكل مجتمعه. سهل ومربح أن يتجاوب هذا الرجل مع المشاعر العدائية تجاه المسلمين اليوم، مفيد له وسيجمع الناس ولو بشكل غوغائي حوله أن يلعب على أوتار مخاوفهم ونفورهم وعنصرياتهم، لربما سيبدو بطلاً جريئاً مصلحة أستراليا عنده فوق كل اعتبار. لكنه لم يفعل، لأنه يعلم أن هذا التوجه يضع مصلحته لا مصلحة أستراليا فوق كل اعتبار، هو يعلم أن في تقسيم الأستراليين وتشجيع بث الفرقة والكراهية بينهم لربما مربح مؤقت له ولكنه خسارة هائلة لبلده وشعبه والإنسانية كلها. هكذا هو السياسي العاقل الذي لا يغامر باستقرار بلده من أجل مصلحته أو قاعدته أو شعبيته، سياسي يخاطب العقل لا العواطف، يحمي القيم والمبادئ لا مصالحه وقبوله عند الآخرين.

نفتقد هذا النموذج كثيراً في الكويت، وقد طغى مؤخراً النموذج المضاد، ينشر الكراهية ويبث العنصرية بصوته العالي وتعابيره المنفرة. نفتقد في برلماننا النبرة المترجرجة بتأثرها من أجل القيمة والمبدأ، من أجل الحق الإنساني، نفتقد الموقف القوي الذي يعلي الحق والخير والعدالة والإنسانية واحترام الآخر دون خوف على مكسب سياسي ودون ابتذال متذلل للصوت الانتخابي. نفتقد ببساطة، لربما يراها البعض سذاجة، النائب الهمام، نصير المستضعفين، حامل نبراس المبدأ، النائب الإنسان.