1-

أيتها المدينة المُثقلة بالحكمة. اقترحتِ على العين ألواناً لم تكن في حسابها. وفّرتِ لي الألوان والكانفس، وقلتِ: استسلمْ لذاكرتك الآن، فرسمتُ استراحةَ الآلام في خمارة "ﮔاردينيا". عرفتُ منكِ أن الموسيقى والرسم ملهمان في كتابة القصيدة، عميقان بفعل اللامباشرة، يليهما النصُّ والخبرة. لأن الزمان في الموسيقى، والفضاء في الرسم بعدان كونيان، يمنحان للقصيدة مدى ماورائياً، هو وحده الذي يميّزها عن النثر.

Ad

حبَّبتِ لي الباصَ والأندرﮔراوند، لأن الأجناس البشرية تتزاحم فيه. أتأملُها جنساً جنساً، وكأني أتأمل الأجناس الخليط في داخلي. أتأملُها وجهاً وجهاً حين تغفو الوجوه قبل العمل وبعده، صوتاً صوتاً حين ترطُنُ الأصوات في الموبايل.

أنتِ تعتبرين الإصغاءَ لصوت وطنيتِكِ لغواً وعيباً. ولأن وطنيتي التي جئتُ بها داخل جواز السفر لا تمسّ إنسانيتي، هجرتُها مع جواز السفر، وتقبلتُ هوية المواطن الذي لا وطن له. أودعتُ الأوجهَ، والأمكنةَ، والأزمنةَ العزيزةَ عليّ في خزين ذاكرتي، ووضعتُ المفتاح في زجاجة، ألقيتُها في البحر. السنوات المتبقية من العمر لم تعترض، ولم يعترض الأسى الذي لم يعد يعتصر القلب.

كم تستحقين أغنية وفائي هذه وقد سمحتِ لأمواج "التَيْمس" تهدهد زورقي الخشبي القديم، ينطلقُ من شريعة "العباسية"، باتجاه "ﮔاردينيا" في شارع أبي نواس. أراه يُحاذي الجرفَ الاسمنتي لشريعة "الساوث بنك"، وعلى أضلاعه الخشبية المطحلبة ينعكس ظلُّ الأسماك.

منحتِني حقَّ أن أَنعمَ بمسرّاتِ بلادٍ كانت لي ذات يوم، ثم أُحرقت على يد جُناةٍ من أبنائها دون رحمة. وما زالتْ تُحرق مع كل صلاة. كم تستحقين أغنيتي، لأنكِ تُهوّنين عليَّ استعادةَ الذكرى، تُلقين عنانَ فرسها في راحة يدي، وتبعثين بي جرأةَ أن أقفزَ باتجاه السحب، حتى إنكِ سمحتِ لحمقى التطلعات الدموية إلى السلطة (الوطنية، القومية، الأممية والدينية...) باللجوء إليكِ؛ ينفّسون في أبهائكِ المضاءةِ عن احتقانهم.

2-

كنتُ في وطني أتقزّمُ بين تطاولِ القامات، وحين جئتُكِ استعدتُ قامتي.

لقد تعلمتُ أن أقولَ شكراً للقارئ المتفضّل، شكراً للطائر الضيف، شكراً لمدفأة البيت.

تعلمتُ الحوارَ لا الخطابة. تعلمتُ أن أقول "لم أفهمْ"، حين لا أفهم، ولمْ أشعرْ بحرجٍ من ذلك، ولا بعيب.

تعلمتُ حبَّ "أنا" النرجس لدى أبي نواس، والارتيابَ من "الأنا" المتورمة لدى أبي الطيب. تعلمتُ أن أتطلّعَ عالياً حين يتردد اسمُ "أبي العلاء". في "هجاء" المتنبي أرى الضغينة، وفي "سخرية" ابن الرومي وابن الحجاج أرى الرغبة في الدعابة والضحك.

أقول للقارئ الإنكليزي تشمّمْ رائحةَ بغداد في عربيةِ قصيدتي وموسيقاها، لا في معناها فقط، ثم أقرؤها له فيطرب.

أقول للشاعر الإنكليزي: إنني أتعلم منك، لا أُقلدك ولا أُحاكيك.

"حين رجعتُ زائراً لبغداد وجدتُ زمني فيها قد غادر إلى غير رجعةٍ. في ذاكرتي ترك بضعةَ مفاتيح تُعينني على الكتابة" قلتُ هذا للمدينةِ المُثقلة بالحكمة.

قالت: "انتسبْ لزمني إذن، فهو يليقُ بتطلعاتك".

قلت: "زمنُك متسارعٌ. كمْ حاولتُه، وأبى إلا أن يظلَّ عصياً". قالتْ: "أفهم ذلك. لم يبقَ لكَ إلا زمنُك الداخليّ تنتسبُ إليه. ستكونَ حراً فيه، فهو شأن الزمن في قصيدتك، لا يُحسبُ حساب الدقائق والساعات والأيام"، ثم أضافت: "إن دخلَكَ على قدرِ حاجتكَ، لا تغفل عن ذلك، وهذا عينُ الغِنى".

مطرُكِ أيتها المدينةُ لا ينقطع عبر الفصول. في الصيف أخرجُ إلى الحديقة عارياً، وأجلسُ تحت المطر.