عند "كيركجارد" الموت مشكل، هو مشكل منطقي وغير معقول، بعد الدفن ينتهي كل شيء، عندما يقترب قريب الميت من حافة القبر، يظل هذا القريب في مكانه قرب القبر، لو ظل على وضعه هذا فسيبقى عاجزاً عن فهم ماذا يفعل الميت، فهذا الميت شخص هادئ، لو نادى عليه باسمه وانتظر طويلاً أو قليلاً عند القبر ينصت، فلن يرد له الميت جواباً، فهذا القبر ساكن تماماً، والميت صامت، ولو زار القبر كل يوم فلن يذكره الميت.

التواصل بين الميت والحي انقطع تماماً، عندها ينظر ذلك القريب للموت على أنه فقدان للغة، ونهاية للعلاقة مع الجماعة، ونهاية اللغة هو نهاية للفكرة.

Ad

عند الوقوف قرب قبر عبدالحسين عبدالرضا سيتذكر الواقفون وعشاق الفن صوتاً بعيداً من الزمان والمكان، نقلهم في درب الزلق إلى زمن جميل، نستولجيا حنين إلى الكويت في بداية الثروة بالخمسينيات، حين هبطت من السماء صدفة، وأثرى فجأة حسين بن عاقول، لكنه لم يعرف كيف ينميها، وظلت عائلته تراقبه حائرة ماذا تفعل بعد أن همش صوت أمه وشقيقه، ورفض أن يشاركهما الرأي، وسلمت الأسرة البسيطة أمرها لاستثماراته الفاشلة لتتبدد الثروة بسرعة، ولا يجد حسين وسعد غير احتراف مهنة صناعة النعل آخر الأمر، هل كان الحديث عن بيت بن عاقول أم عن بيت الكويت، بين أمس التثمين واليوم بعد احتراق مصنع "الجبريت" وضياع سعر النفط... كانت قصة مسلسل بلد؟!

هو النفط الذي تباهى به حسين لجانيت الإنكليزية في "باي باي لندن"، ليتفاخر به ويكسب قلبها عبر ثراء أهل بلده، البترول وفير جداً، يمكن أن يعوم في بحيراته العميقة، يرفع حسين يده لجبهته، يري جانيت المزيفة عمقه وعمق ثروته منه، مات عبدالحسين وقبله بعقدين ماتت سبيكة "سبكاواوا" زوجته في المسرحية، مريم الغضبان، لن يلحقا على زمن الكويت بعد احتراق مصنع الكبريت.

لمحة فرح غامرة نهيم فيها بمليارات الخواء في فرسان المناخ، الفرسان الجماعة أصبحوا أثرياء يملكون المليارات بدون أي عمل ولا جهد غير جهد المضاربات المالية، لكنها مليارات من وهم جاءت بسرعة وتلاشت بسرعة، لا رصيد لها في عالم الحقيقة، دنيا من أحلام اليقظة يمدد الجالسون فيها أقدامهم وهم يستمعون إلى "الجالقي" في سهرة حمراء بمزرعة يسمح فيها بهامش كبير لبهجة السهر مع الممنوعات، ويتم بصالاتها توزيع مغانم النهار على الراقصة والمطرب. المزرعة مكان مسموح فيه بالفرح العابر في محيط محافظ عابس تهيمن عليه روح الجد كما صورها سارتر، وتبقى المزرعة الماجنة ومحيطها المحافظ شاهدين على واقع رياء كويت الخير والبركة... وفي النهاية الحتمية يضيع كل شيء، يتبدد عالم الكذب سريعاً أمام حتمية التغيير، لم يعمل الساهرون المبتهجون في تلك الليلة حساباً للغد، كانوا "سكارى" من البرميل، في أوج نشوتهم نسوا الزمن وأفاقوا بعدها ليجدوا أنفسهم في ليل طويل مظلم ممتد من غير ألوان الفجر والفرح.

نستولجيا الذكرى للماضي نقشها عبدالحسين في عدد من أعماله الفنية، مثلما رسمها الفنان الراحل حسين الأيوب، مات حسين الأيوب بعد أن خط لنا الماضي بكل تفاصيله، ومات عبدالحسين بعد أن حفر في أرواحنا رسوماً للزمن الجميل في عقدي الستينيات والسبعينيات... أيام لن تعود... ويبقى الزمان والمكان يسبحان في كون بلا نهايات.