عنوان ديوانك «يوم قررت أن أطير»، ما الذي دفعك إلى اختيار ساعة الصفر لتطيري؟

لكلّ واحد منّا أحلامه، يوقظها تارة ويجعلها تهجع في سبات عميق طوراً. ربما عندما يحزن كثيراً يطلق العنان لها، لعلّه يطير مجدداً ويملأ فضاءه حبّاً وفرحاً. أما أنا فـ«يومَ قرّرتُ أن أطير، أغلقتُ جميعَ النّوافذ، ذهبتُ إلى صندوقي القديم، ونفّضتُ عنه غبارَ الزّمن، اخترتُ أثمنَ مراياي وأَرْوَعَها، ورحتُ أدورُ حولها، أراقصُ نفسي، ظنًّا منّي أنّي حرّةٌ أطير... وأنا على يقين أنّني، أسافِرُ من سجنِي إلى رمسِي الأخير!»...

Ad

لماذا هذا الدوران حول المرايا؟

لأنها تعلم بؤسي وخجلي، ولأنها شاهدة على قلب أراد الإبحار في لججها، لكنّه صِدقًا لا يعلمُ كيف يطير! لذا توسلت إليها بأن ترأف بي.

ظِلُّ الوالد الأديب والشاعر عبدالله شحادة حاضر في قلبك وفي قلمك، فهل هو الشعلة التي حركت لديك ملكة الكتابة؟

أبي هو مثلي الأعلى، قدوتي في الحياة. جسده ليس حاضراً معي ولكنّ روحه ترافقني في كل خطواتي. لذا توجهت إليه في مقدمة الديوان قائلة: (...) «تنسّك الحرف لرحيلك يا والدي في صومعة الحكمة والأدب، يبكي ثالوث الأنامل التي عانقت روحك، يشكو من مهجة قوافيه الذابلة عند سفوح ساكنة، تدمع فوقها السماء، ثم يصخب الوجود ويهمس الموت همسات سحرية ويتوامض النجم في السموات الفيحاء، فيبزغ فجر تحطمت فيه أبجديّة الجسد لتخلد روحك هازجة راقصة في برجها العالي. فاستيقظي يا نفسي وتوجي هامة والدك بإكليل غار من أرض لبنان!.. اتركي الناي يبكي ألحاناً، والطير يرتّل، والفرح ينوح، حتى تتعانق الصلوات وترثي والدي معي في قيثارة عبراتي...

أبي... أبي... يا إمام الحب والعطف والحنان، يا شاعراً غريداً تردد صداك القلوب ومنابر القافيات، يا جناح الحلم المرفرف في يقظة الأمل، غدت خشبات منبرك نعشاً، وعلم بلادك كفن مجدٍ وفخار، وتراب لبنان المندّى بالعبقريات مثوى ومرقداً ومقيلا.

اختصاصك هندسة وعشقك للأدب، فكيف تتعاملين مع كلا الاتجاهين؟

على عكس المفهوم السائد بأنّ الهندسة والشعر لا يلتقيان، فإنهما يجسدان الخلق والابتكار بأجمل حِلَلِه.

بوح وتجربة

الوالد، الوطن والحبيب مداميك ثلاثة تقوم عليها كتاباتك، فهل هي استكمال لخط الوالد، أم بوح نابع من تجربتك الخاصة في الحب والوطن والحياة؟

إنها باقة أحاسيس فيها حضور لافت لروح والدي الشعرية كما أنها بوح متدفق من تجارب أعيشها ويعيشها من حولي، إنها شوق للعودة إلى الأرض علنا ندفن الأحزان كل الأحزان والجراح العميقة، ونبعث من جديد مرتدين ألوان الفرح، إنها شوق إلى معانقة جذور الأشجار... إنها بحث عن قلم لا يجفّ حبره وورقة لا تنتهي...

القصيدة الأولى في الديوان نظمها لك والدك يوم مولدك والقصيدة الأخيرة تتوجهين فيها إلى والدتك. فهل يبقيان مرآتك ترين من خلالها نفسك والغير؟

أمي وأبي غرسا بذورهما في قلبي وروحي وعقلي، وقد أثار فقدهما في نفسي توقاً إلى معانقتهما من خلال الكتابة، علّ حضورهما بين أحرفي يعبئ بعضاً من فراغ في قلبي، ويقيني بعضاً من الغربة في تجوالي في دياري، برحيلهما نفِد العنب والتين، وكلما بسطت يديّ علّني أجني القبلات وأعتّقها في خوابي الذكريات وجدت شوكاً وعلقماً...

سأم وتمرّد

في ديوانك أنت ثائرة ومتمردة على التقاليد وفي الوقت نفسه تعيشين سأماً. لماذا هذا السأم؟

كلّنا نسأم من أوضاع مترديّة؛ نحاول تحسينها ولكن في بعض الأحيان نصدم بواقع أليم أو مرير. إنها المشاعر التي تتكلّم حينها لترسم بريشتها لوحةً آلمتها أو مشهداً أبكاها.

في ديوانك صور رمزية تحمل أكثر من معنى، وتنبض حباً إلى أبعد الحدود، ووجعاً مرده قصص الموت والمعاناة التي تلمسينهما يومياً بين المحيطين بك، فهل أنت مرآة للذات الإنسانية ككل وليس لذاتك فحسب؟

الكاتب والشاعر هو أولاً إنسان. وكلما تنسّك هذا الإنسان في صومعة أخيه الإنسان وركع معه واحتفى وسرّ لسروره وحزن لحزنه، نجح في ترجمة الواقع إلى قصائد وحكايات.

ترتسم في الديوان تساؤلات كأنك تبحثين من خلالها عن حقيقة ما، فعن أية حقيقة تفتشين؟

أبحث عن المحبة وأبحث عن الكمال دائماً الذي نتوق إليه في حياتنا. بالمحبة أوصانا الله، فلندعها تتكلم فينا، تتحكّم بنا، تسيطر علينا، متى أسرت المحبة حررت! فأسرها حرية... كذلك أبحث عن كشف بعض أسرار دنيانا الغريبة التي تسكن في بعض زواياها آلام الهجرة والغربة والفراق...

ما الذي تعلمته من الحياة لغاية الآن؟

تعلمت أن أعيش في الآخر وللآخر؛ أن أتوّج كلّ علاقاتي بالمحبّة. فقط المحبة. وأن أتصوّف في علاقاتي أكانت مهنيّة أو اجتماعية.... أن أضع كلّ شيء يعنيني في إطار ذهبيّ وأتجاهل كلّ ما لا يعنيني أو يشدّني إلى الأسفل... بالشوق روحي تفتن وبالحب قلبي ينبض، وبالعبرات أعزف أشعاري وأرسلها على جناح الريح لتناجي الروح والفكر...

يبدو من خلال قصائد الديوان أنك تحاولين اجتياز الواقع والإبحار خارج الزمان والمكان، فهل تتحدين ذاتك للهروب من بشاعة الواقع؟

الواقع يكون تارة جميلاً وطوراً بشعاً. والحمد لله، أكرمني ربّي بنعم كثيرة! أعيد صياغتها لأنعم بها على من حولي. ولكن يجب ألّا نكرّر نفسنا دائماً. يجب أن نكون في تجدّد مستمر كما الطبيعة في فصولها. ولا يكمن التجدّد إلّا في الثورة على ما هو راكد وعفن ومضّر في مجتمعنا.

يجمع ديوانك بين الرومانسية والتأمل وشذرات فلسفية تنطلق من الأنا وتعود إلى الأنا، ليس الأنا الأنانية بل الأنا المتفجرة بالعطاء، فهل الكتابة بالنسبة إليك فعل حب يعطي من دون حدود؟

كلّ حرف يذرفه قلمي على الورق، أخطّه بحبّ لا متناهٍ ومن دون قيود أو حدود. فعل الحبّ عندي لا يعرف التصريف: لا أرفعه ولا أنصبه ولا أخضعه لقوانين الأرض بل لقانون السماء. حررت ذاتي من ذاتي، وأصبح الحبيب والوطن صنوين لا ينفصلان، لا أقوى على العيش في غربة عنهما، فأنا أرى نفسي من خلالهما امرأة ليست ككل النساء.

ما الجديد الذي تعملين عليه حالياً؟

أعمل على جمع إرث الوالد عبد الله شحاده «شاعر الكورة الخضراء» الذي يتضمن مجموعة دواوين تركها لنا بخطّ يده. وإن شاء الله في منتصف السنة المقبلة سنحيي احتفال إطلاق «مجموعة عبد الله شحاده الأدبية».

الشعراء الشباب

تضطلع الشاعرة ميراي شحادة في طرابلس بمهمة تشجيع الشعراء الشباب. حول حركة الشعراء الشباب في لبنان، توضح: «اهتمامي الأساسي هو تحفيز الشباب على الكتابة باللغة العربية. لغتنا جميلة موسيقية ورائعة وتاريخنا اللبناني والعربي عريق جدّاً. أنا من عشاق لغة الضاد وسأبقى وفيّة لهذه اللغة!».

وحول ما إذا كان للدواوين الشعرية مكانة في عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاحتماعي، تؤكد: «للناس اهتمامات كثيرة! ولكن ما دمنا مؤمنين بالشعر والأدب وتوّاقين إلى تجسيدهما في كتاب تعانقه أيدينا وتلامس كلماته أعيننا، ستبقى الكلمة بألف خير».