أعتقد أن السؤال واضح، نتكلم هنا عن الإدارة، وليس الحكم، الإدارة... هذا العلم الذي يُدرس بالجامعات، ويتطور يوماً بعد يوم، ليحسّن ويسهّل سير وانتظام حياة البشر على هذا الكوكب.

من متابعتي الإجبارية، بصفتي أعيش في كنف هذه الدولة معكم، لاحظت، وبعض الملاحظات إثم، أنه مهما كانت الشعارات كبيرة والاجتماعات كثيرة والمؤسسات متعددة واللجان متشعبة؛ فإن القرار الإداري في الكويت غالباً لا يخرج عن نطاق ثلاث أفكار رئيسية، تصوغ العقل الجمعي، سواء أكان الحكومي أم النيابي، والاختلاف يكمن فقط في التفاصيل وطريقة الإخراج، التي تزيد شعبية القرار أو تنقصها، لكنه في كل الحالات بذات المضمون.

Ad

أولى الأفكار الراسخة وتتوارثها الأجيال هي فكرة "الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح"، وهذا النمط من الفكر الإداري يستخدم غالباً كحل فعال لمواجهة أنماط مختلفة من المشكلات، أو الأحداث التي تواجه مؤسسات الدولة أو الأفراد، ويكون لها علاقة بالدولة أيضاً، فمثلاً يرتكب مواطن من إحدى الدول جريمة، فيتم منع جميع مواطنيه من دخول البلاد، أو أن يهمل الوالدين تربية أبنائهم، فيتسكعون بالمقهى حتى الفجر، فيشتكون للجهات الرسمية من فتح المقاهي، فيصدر القرار الحكومي بالإغلاق المبكر للجميع، وعلى هذا المنوال؛ بلا إبداع، بلا وضع حلول بديلة، بلا مواكبة، بلا بحث عن أسباب حقيقية.

الفكرة الثانية مقاربة للأولى، لكنها أخف وطأة وأشد تأثيراً وانتشاراً وعبثاً، الفكرة الأولى تغلق الباب على الجميع، وهذه تجعله موارباً ومزعجاً، فهذا الحل الإداري العبقري قائم على فكرة العقاب الجماعي؛ هناك من خالف القانون فلابد من معاقبة الجميع بتشديد الإجراءات عليهم، وهذه الفكرة هي الأكثر سيطرة على الذهنية الإدارية هنا، ويمكن ملاحظتها من الشارع حتى مجلس الوزراء، يسرع شخص مستهتر بسيارته في شارع ما، ويصطدم بشجرة، فيدفع غرامة بسيطة وعقوبة مخففة، وقد لا يمر بهذا الشارع مرة أخرى، و"يبتلش" باقي الناس بالمطبات التي ستظهر لتزعجهم مدى الحياة، حتى لا يتكرر حادث الشجرة السخيفة، أو أن تضع الحكومة مزيداً من الإجراءات الإدارية المعقدة لمنع الاتجار بالإقامات من جانب التجار الذين تعرفهم، فتعرقل بذلك الأعمال الحقيقية الجادة، بينما الفاسد المقصود أساساً بهذه الإجراءات لن يضره شيء؛ لأنه يعرف كيف يتلاعب مع أجهزة الحكومة المخرومة.

أما آخر الأفكار الإبداعية في الإدارة الكويتية فهي فكرة إصلاح المئة فلس بربع دينار، وهي أحدث الأفكار وأكثرها خبثاً وغباءً في الوقت نفسه، لنضرب مثالاً قبل أن نضرب رؤوسنا بالحائط، فالحكومة بدلاً من أن تسعى لتعديل التركيبة السكانية، وإصلاح منظومة النقل الجماعي القائمة، ومن ثم تحسين الشوارع وتطوير إداراة المرور التي تخلع أرقام السيارات المخالفة، تطبيقاً لمبادئ الفكرة الأولى سالفة البيان والتوضيح، تقرر، وبمباركة النواب، إنشاء مترو بالمليارات، وأجزم أنه لن يركبه بالنهاية إلا العمالة الهامشية بخط بنيد القار إلى الفحيحيل، مروراً بخيطان، ولن تخف الزحمة على أرض الشارع. مثال آخر، لا يمنع، ترى موظفي إدارة حكومية مهملين لأعمالهم كعادتهم، وتكتشف أنه بدلاً من عقابهم أو نقلهم أو إعادة تأهيلهم نفسياً، مثلاً، يتم منحهم مزيداً من البدلات والأموال، لتحفيزهم على العمل الذي لا يطيقونه أصلاً، أو في أفضل الأحوال يتم زيادة عدد الموظفين معهم، لتقسيم العمل الذي لا يتجاوز ختم ورقة هنا أو تدبيسها هناك، بينهم، فيتضاعف عدد الموظفين وتزيد مطالبهم وتكاليفهم، فيؤسسون بعدها نقابة لتدافع عن حقوقهم المسلوبة، بدعم نواب الحريات الشعبوية، وبعد سنوات سيتم استئجار أو بناء مبنى أكبر لمؤسستهم الحكومية المهمة، لتكفي فرق الموظفين الختيمة والبصيمة والدبيسة والدبيچة، وقد يحدث كل ذلك ومعاملتك مازالت تجري بين المكاتب والأدراج، وإذا كلمت أحداً تظنه يستطيع عمل شيء رد عليك: "يا عمي، عبالك قاعدين بالنمسا"، وهذه بحد ذاتها تعتبر جملة تحفيزية في العرف الإداري الكويتي الحديث.