في حين كانت شهرزاد أكبر تجلس في منزلها في كابول المحصّن وراء بوابتين من الفولاذ تحميانه من الشارع، راحت تتحدّث عن التغلّب على الحقد. ترتدي هذه الشابة (29 سنة) الحائزة إجازة في دراسات التنمية من جامعة أكسفورد ثوباً بدوياً مطرزاً بألوان زاهية فوق سروال جينز ضيق.

في شهر يناير الفائت، قتلت حركة طالبان أحد أعزّ أصدقائها، معاون والي قندهار عبد العلي شمسي. لم يكن يكبرها بكثير. ويوم مقتله، التقى زواراً دبلوماسيين من الإمارات العربية المتحدة. كانت القنبلة مخبأة في بطانة كنبة في مكتب الوالي وأدت إلى مقتل 13 شخصاً.

Ad

ساهم كل من شمسي وأكبر في تأسيس مجموعة تُدعى «أفغانستان 1400»، وهي حركة تضمّ شباباً أفغانيين مثقفين يقودون حملة لإنهاء الحرب الأهلية في أفغانستان. تخبر أكبر أن متحدثاً شاباً باسم طالبان كان حضر يوم مقتل صديقها ورشة عمل مع أعضاء من الحركة. تقول: «في تلك اللحظة، كرهت ذلك الرجل من أعماق قلبي لأن حركة طالبان قتلت صديقي. ولكن هنا تكمن النقطة الرئيسة: يجب أن نتخلص من الكره». وتؤكد أكبر أن كثيراً من أعضاء طالبان يتوقون بدورهم إلى السلام بعد 16 سنة من القتال.

ولكن كيف يمكن لإنسان أن يواصل السعي في سبيل قضية بعدما قتل الانتحاريون صديقه العزيز، أو أخيه، أو ولده؟ كيف يستطيع إنسان تحمّل هذه الوحشية التي تغلّف كل ما في أفغانستان اليوم تلو الآخر؟

قُتل نحو 3498 مدنياً في هذا البلد السنة الماضية، معظمهم في عمليات تفجير. كذلك لقي نحو 7 آلاف عنصر من قوى الأمن الأفغانية حتفهم، ما رفع معدل الوفيات إلى نحو 30 يومياً. ولا شك في أن هذا رقم مريع.

موجة القتل المجنونة

تشبه العاصمة كابول حصناً. تشهد هذه المدينة راهناً أعنف مرحلة منذ بداية الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. تنتشر التفجيرات في كل مكان. واستهدف أحد أسوأ الاعتداءات التي نُفذت في العاصمة السفارة الألمانية في 31 مايو. لقي أكثر من 150 شخصاً حتفهم وأُصيب 460 آخرين عندما انفجرت عبوة زنتها 1.5 طن. كان مبنى السفارة شبه فارغ، إلا أن الإرهابيين قتلوا عدداً كبيراً من موظفي شركة روشان للهاتف، الذين كانوا يسكنون مبنى في الجهة المقابلة من الشارع. وكان معظم القتلى من خريجي الجامعات الشباب القادرين على المساهمة في إعادة بناء البلد.

تشدّد شهرزاد أكبر: «يجب أن تتوقف موجة القتل المجنونة هذه». وفي مبادرة فنية، صبغت هي وناشطون آخرون من «أفغانستان 1400» نهر كابول بالأحمر طوال ساعة في فبراير الفائت، فبدا كما لو أن الدم يسيل في قلب العاصمة. لكنها تسارع إلى التأكيد أنهم استخدموا «صباغاً غذائياً آمناً لا يُضر بالبيئة». أرادت المجموعة أن توصل إلى أهل كابول رسالة مفادها أن هذه الحرب ليست إلهية إنما من صنع البشر. غطت وسائل الإعلام الحدث، ووقف مئات المشاة على الجسر وناقشوا معناه.

خلال الخمس عشرة سنة الماضية، أخفق المجتمع الدولي في حل المشاكل السياسية في المنطقة. رغم ذلك، شهدت مجالات كثيرة تحسناً. فصارت الطرقات تغطي أفغانستان كلها، بما فيها مناطق كانت تفتقر سابقاً إلى الطرقات. كذلك تحسّنت الرعاية الصحية، حتى البريد صار يُسلّم ببعض المصداقية.

قدّم هذا البلد أيضاً نساء يعملن قائدات فرق موسيقية، وقائدات طائرة، ومقاوِلات، وجنديات في فرق المظلات. كذلك تدير النساء في أفغانستان اليوم محطات إذاعية وصحفاً يومية في المحافظات كافة تقريباً. بالإضافة إلى ذلك، تقدّم عشرات محطات التلفزيون برامج حوارية سياسية يومية وتبث الأخبار من حول العالم. صار أيضاً 8% من الأفغان يملكون هاتفاً محمولاً، وتخرّج الكليات والجامعات في هذا البلد عشرات آلاف المتخرجين الجدد كل سنة، فضلاً عن أن آلاف الشباب يدرسون في الخارج.

ربما يشكِّل بروز هذا الجيل الجديد المثقف التطور الأكثر تأثيراً في السنوات الأخيرة، فيبدو أن البذور التي زرعها الغرب بدأت تنبت. يُعتبر هذا الجيل الجديد ابن المجتمع الدولي. لذلك لا يختلف تفكيره في أوجه كثيرة منه عما نشهده بين الشباب في أوروبا أو الولايات المتحدة.

تحدي التقاليد

رغم هذا التقدّم الاجتماعي، يُعتبر السلام في أفغانستان أبعد ما يكون منذ بداية الغزو الغربي قبل 16 سنة. من قواعد النجاة غير المكتوبة في كابول تذكّر أن الساعة الثامنة صباحاً من أيام الأربعاء والسبت، قبل العطلة الأسبوعية وبعدها، الوقت المفضل للانتحاريين. في هذه الأوقات، يجتمع أكبر حشد من الناس في الشوارع. نتيجة لذلك، صار عدد كبير من سكان كابول يغادرون منازلهم قبل هذه الأوقات أو بعدها بنصف ساعة. كذلك يتفادون دوار مسعود قرب السفارة الأميركية، فضلاً عن طريق المطار، بما أنهما من الأماكن التي يستهدفها الانتحاريون غالباً.

أُضيفت ساحة الألعاب في حديقة حيوانات كابول أخيراً إلى لائحة الأماكن الخطرة لأنها من الأماكن المعروفة التي يلتقي فيها العشاق. كذلك من الضروري تجنّب المساجد التي يصلي فيها أعضاء الحكومة البارزون. على نحو مماثل، تُعتبر مطاعم مشهورة مثل iCafe، Slice، و24/7 Pizza Shop من الأماكن الخطرة، شأنها في ذلك شأن مطعم Spujmay على بحيرة «غرقا»، التي تبعد بضعة كيلومترات عن المدينة.

ترمي إستراتيجية حركة طالبان إلى نشر أكبر مقدار من الرعب. اكتشف جهاز الاستخبارات الأفغاني أن مدرسة لتعليم القرآن في مدينة شامان الباكستانية الحدودية تدرّب، على ما يبدو، انتحاريين لتنفيذ الاعتداءات في أفغانستان. والهدف، وفق المسؤولين الأفغان، قتل أكبر عدد من الناس كي يثور الشعب الأفغاني ضد الحكومة في كابول لأنها تعجز عن حمايته.

تعارض النخبة الشابة ثقافة العنف هذه وتناضل في سبيل تغييرات أساسية في البلد. على سبيل المثال، يُسمح للرجال والنساء بالجلوس معاً في قاعة المحاضرات في جامعة جهان النور، وهي مؤسسة علمية خاصة في وسط مدينة كابول. تدرّس هذه الجامعة الصحافة، وستفتح قريباً قسماً للعلوم الاجتماعية والاقتصاد. يذكر محمد شعيب، طالب في الثالثة والعشرين من عمره من بغلان: «نطالب بحكومة فاعلة، وعدالة اجتماعية، وفرص». ويؤكد أن العقبة الكبرى التي تقف في طريقه وطريق أصدقائه تبقى المجتمع الأفغاني التقليدي. يضيف موضحاً: «لا يفهم المسنون شيئاً، ويريدون رغم ذلك اتخاذ القرارات كافة».

انقسام بين الأجيال

لا تتجاوز سن عميد جامعة جهان النور السابعة والعشرنن عاماً. بعدما قدّم مسلم شرزاد برنامجاً سياسياً حوارياً مشهوراً على محطة Tolo TV طوال ست سنوات، تحوّل إلى أحد نجوم وسائل الإعلام. أجرى شرزاد مقابلات مع أبرز شخصيات عالم السياسة، بمن فيهم مجرمو حرب مشتبه بهم أمثال نائب الرئيس الحالي عبد الرشيد دوستم. فسأله شرزاد عن مصدر ثروته وأسلحته الكثيرة. قبل 15 سنة، كان من المستحيل أن يتحدى شاب علانية قائد ميليشيات نافذاً كهذا.

يخبر شرزاد: «سافرتُ إلى 50 بلداً، لكنني قررتُ في النهاية أنني أرغب في البقاء هنا». كان شعره القصير مفروقاً على الجانب، وكان يرتدي بذة بقصة ضيقة تزينها ربطة عنق صفراء داكنة. يعتبر شرزاد أن «أوروبا مناسبة للأوروبيين، وأستراليا مناسبة للأستراليين، وأفغانستان مناسبة لنا. أمامنا مستقبل باهر».

ولكن ماذا عن الفساد، والبطالة، والتفجيرات؟ يجيب شرزاد أنه يطبق المثل الأفغاني القديم القائل: «لا تقع في الحب ما دمت لا تملك قلب أسد». بكلمات أخرى، من الأفضل لمن يفتقرون إلى الشجاعة أن يقبعوا في منازلهم. ويعلّم شرزاد المبدأ ذاته في جامعته: «كن واثقاً. يمكنك النجاح لأنك بطل».

تتبنى بصيرة جويا (20 سنة)، التي تتابع دراستها في هذه الجامعة، المبدأ ذاته. تقول: «أريد أن أمنح صوتاً للنساء اللواتي خُنقت أصواتهن». كانت جويا ترفع شعرها إلى الأعلى وتلقي عليه حجاباً لا تحكم ربطه. وكانت ترتدي تنورة قصيرة فوق سروال ضيق وتنتعل حذاء أحمر اللون. كذلك استعملت محدد العيون لترسم حاجبيها وطلت شفتيها بأحمر شفاه وردي مفعم بالحياة. انتقلت هذه الشابة إلى العاصمة قبل سنتين وتعيش فيها مع إخوتها. تعمل جويا مذيعة أخبار على محطة Zan TV الخاصة، وتستخدم راتبها في تسديد أقساط الجامعة ونفقاتها.

يطمح أعضاء النخبة المثقفة الجديدة إلى أهداف مختلفة عما سعى إليه المناضلون السابقون. فما عادت هذه النخبة مستعدة لإطالة عداوات الآباء الإثنية التي صاغت البلد. ما عاد هؤلاء الشباب مستعدين للإصغاء إلى مَن سبقوهم من رجال وميليشيات. صحيح أن هؤلاء يملكون السلاح، إلا أنهم لا يجيدون الكتابة والقراءة. في المقابل، يسخر كثيرون من الأكبر سناً من الحركات المدنية مثل «أفغانستان 1400»، معتبرينها ساذجة وغير منطقية.

يعقد الناشطون اجتماعات استراتيجية مرةً في الأسبوع في مكتبهم الصغير في حي «كولولا بوشتا». تدور نقاشاتهم غالباً حول ما إذا كان عليهم العمل داخل المؤسسات أو خارجها لأنهم يعتبرون هذه المؤسسات «فاسدة بالكامل ومعطلة». تعلو أحد جدران هذا المكتب عبارة «امنحوا السلام فرصة».

ولكن من الصعب الإيمان بالسلام في مكان يسوده العنف. بعد مقتل صديقها، حاولت الناشطة شهرزاد أكبر أن تجد العزاء في كلمات قصيدة لشاعر أفغاني، حتى إنها رددت بعض أبياتها عن ظهر قلب: «تشتم رائحة فولاذ الأسلحة، تشتم رائحة الدم، تشتم رائحة الأفيون. قبلني واترك كل هذا وراءك». توجهَت أكبر ذات صباح إلى الجبال القريبة من كابول لممارسة رياضة المشي في الطبيعة، وراحت تردد هذه الكلمات لنفسها.

بحلول الساعة الخامسة فجراً، قبل شروق الشمس فوق العاصمة، كانت أكبر قد بلغت القمة. كانت السماء صافية فوق أبنية كابول بلونها الرملي. تخبر هذه الناشطة أن البحث عن الجمال يساعدها في محاربة الكآبة.

تريد أكبر أن تواصل هزّ المجتمع. زرعت هي وأعضاء آخرون من «أفغانستان 1400» أخيراً 3498 شجرة في الريف الأفغاني تكريماً لذكرى المدنيين الأبرياء الذين ماتوا السنة الماضية. تقول: «هذه ليست مجرد أرقام. هؤلاء أناس مثلهم مثلنا».