يسود انطباع قوي بأن الإسلام هو الديانة الأسرع نمواً في مناطق مختلفة من العالم؛ وهو انطباع صحيح، ويمكننا إيجاد العديد من الأدلة والبراهين لإثباته.

سيتصدر الإسلام قوائم الأديان المختلفة عندما يكون السؤال عن نسبة الزيادة في عدد المنتمين إليه، وستتصدر المسيحية تلك القوائم عندما يكون السؤال عن إجمالي عدد المنتمين إلى الأديان المختلفة، وهو أمر تحرص مراكز البحوث واستطلاع الرأي العالمية المهمة على القيام به بشكل دوري.

Ad

لكن تلك المراكز بدأت في السنوات الأخيرة تلاحظ أن طارئاً ما بدّل عناصر في قوائمها تبديلاً جوهرياً، وراح الباحثون والمدققون يكشفون قدوم وافد جديد، يكسب أرضاً يوماً بعد يوم، ويجبر واضعي القوائم على إجراء تغييرات أساسية في فئاتها.

لقد اضطر المكتب الاسترالي للإحصاء أن يضع باب "بلا دين" على رأس الأبواب التي أجرى على أساسها إحصاء الحالة الدينية في البلاد لعام 2016.

ويعني باب "بلا دين" في صحيفة الاستبيان التي يقدمها المكتب الاسترالي للإحصاء، أو أي من مراكز البحوث واستطلاع الرأي الأخرى، أن بعض المستطلعة آراؤهم سيقرر اختيار تلك الخانة عند سؤاله "ما دينك؟".

واختيار الإجابة "بلا دين" لا تعني بالضرورة أن صاحبها "ملحد"، كما لا تعني أيضاً أنه لم يولد على ديانة معينة، وربما يكون قد تم تعميده في كنيسة، أو ذهب برفقة أسرته إلى الحج في مكة، لكنه ببساطة شديدة لا يجد أنه مؤمن بدين محدد، ولا يعتقد في أي من الرسالات الدينية التي نصنفها سماوية أو غير سماوية.

وعندما تزيد رقعة "اللا دين" في مجتمع ما، فإن هذا الأمر يشير إلى تطور جوهري في الحالة الدينية لهذا المجتمع، لكن عندما تكون هذه الزيادة بمتوالية هندسية، وعندما تحدث في أكثر من مجتمع في مناطق مختلفة من العالم، فإننا نكون بصدد تحول عالمي مهم، وهو تحول لا يخص الحالة الدينية فقط، لكنه ينعكس بوضوح على السياسة والأمن والاستراتيجية والقيم والأخلاق وأنماط الحياة.

يقول مكتب الإحصاء الاسترالي إن نسبة من قالوا إنهم "بلا دين" في إحصاء عام 2016 ارتفعت بمتوالية هندسية، لتبلغ 29.6 في المئة من الاستراليين، مقارنة بـ22.6 في المئة عام 2011، و19 في المئة عام 2006.

يعني هذا ارتفاعاً لغير المنتمين لأي دين من خمس السكان، إلى أقل قليلاً من ربعهم، وصولاً إلى ما يقارب الثلث، في عشر سنوات فقط... إنه تطور مزعج، يجب أن يكون محل درس عميق.

في مقابل هذا الارتفاع المطرد، كان المسلمون الذين يحتلون رؤوس قوائم المتدينين الأسرع نمواً في العالم، ينمون بنسبة ضئيلة، لترتفع حصتهم من 2.2 في المئة في 2011، إلى 2.5 في المئة فقط في 2016.

لا يقتصر الارتفاع في عدد "أتباع الدين الجديد" (اللا دين) على استراليا فقط؛ بل إن الأمر ذاته حدث في الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث أفادت دراسة أجراها مركز "بيو" للأبحاث أن عدد البالغين الذين قالوا إنهم "يؤمنون بالله" انخفض إلى 89 في المئة عام 2014، مقابل 92 في المئة في 2007، أما عدد الأميركيين الذين لا يعتنقون أي ديانة، فقد زاد إلى 23 في المئة من إجمالي السكان، مقابل 16 في المئة فقط في فترة المقارنة ذاتها.

بحسب دراسة "بيو" فإن ربع الأميركيين تقريباً من أتباع الدين الجديد (اللا دين)، وهو أمر مزعج للقادة الدينيين بكل تأكيد، لكنه أقل إزعاجاً إذا ما تمت مقارنته بالوضع في بريطانيا، التي تشهد أرقاماً مثيرة للاهتمام في هذا الصدد.

ففي دراسة أجرتها جامعة "سانت ماري" غرب لندن، ظهر أن ما نسبته 48.6 في المئة، أي نصف سكان بريطانيا تقريباً، "من دون ديانة"، في حين شهدت نسبة المسيحيين انخفاضا من 55 في المئة إلى 43 في المئة بين الأعوام 1983 و2015، مقابل تضاعف نسبة أصحاب الديانات الأخرى غير المسيحيين أربعة أضعاف؛ كالديانة الإسلامية، خلال الفترة ذاتها البالغة 32 عاما.

لقد بدا واضحاً أن "الدين الجديد" يتقدم في مناطق العالم المختلفة، ورغم عدم وجود إحصاءات موثوقة، أو نسق حريات كافٍ، في منطقة الشرق الأوسط، لإجراء مثل تلك البحوث والاستطلاعات، فإن البعض يعتقد أن ثمة تقدماً أيضاً لـ"الدين الجديد"، في العالم العربي، عبر زيادة ملموسة في نسبة الإلحاد، والميل إلى التحلل من الانتماء الديني، وهي زيادة حذر منها قادة دينيون واجتماعيون بارزون.

من الضروري جداً تقصي الأسباب التي دعت إلى تفاقم تلك الظاهرة، وزيادة رقعة "اللا دين" في خريطة الحالة الدينية العالمية؛ وهي أسباب متنوعة، لكن العولمة وتجلياتها الاتصالية خصوصاً، تأتي على رأسها.

فمن خلال النسق المعلوماتي والاتصالي الذي خلقته العولمة وأمنّت له الاستدامة والازدهار، أمكن للجمهور التعرف إلى أنساق دينية واجتماعية مختلفة، كما بات بوسعه أن يعاين ويختبر القيم والمقولات والحجج التي تدعم نسقه الديني، ويضعها في سياق مقارن مع مثيلاتها في الأديان الأخرى، وأن يطلع على الانتقادات الجوهرية بحق اعتقاده، وأن يشهد تجريد مقدساته من ذرائع تقديسها، عبر الفضاء المنفتح، الذي لا يضبطه ضابط ولا يحده حد.

ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، وهو السبب المتعلق بالتقدم العلمي المذهل، الذي حطم في طريقه الكثير من التأويلات الدينية الخاطئة، والتي سبق أن ادعت ادعاءات خلطت بين العلمي والديني، ثم فُجعت لاحقاً بظهور الحقائق العلمية التي كشفت زيف تلك التأويلات وتهافتها، ما انعكس على ثقة بعض المتدينين، وجعلهم أكثر مطاوعة لـ "الدين الجديد". يأتي عقم الخطاب الديني، كسبب رئيس من أسباب توفير الدعم لـ"الدين الجديد"، خصوصاً عندما ينصرف هذا الخطاب عن كل قيمة وجوهر، ويُغرق أتباعه في التفاصيل والقضايا الهامشية، ويعمد إلى التفسيرات الحرفية، والتأويلات الملتوية.

لكن التنظيمات الإرهابية، التي اتخذت العقيدة مطية لتسويغ جرائمها الشنيعة، تظل أهم الأسباب التي تدعم الظاهرة الجديدة المزدهرة، إضافة إلى التوظيف السياسي للدين، والانخراط في الحروب الطائفية، الذي ينعكس لاحقاً في صراعات مريرة بين أتباع الأديان والمذاهب، تكون نتيجتها أرض جديدة يكسبها كل اليوم "الدين الجديد".

* كاتب مصري