لا شك في أن البيئة التي عاش فيها يوسف حبشي الأشقر أثرت بشكل أو بآخر في توجهه الأدبي، فهو ولد (1929) في قرية لبنانية تدعى بيت شباب في الجبل اللبناني، تزخر بحركة ثقافية ناشطة ذلك أن كثيراً من أبنائها يتعاطون الفكر والثقافة والصحافة، وابن منطقة عاش في كنفها أمين الريحاني وميخائيل نعمة وإيليا أبي ماضي ويوسف غصوب وكوكبة من أهل الفكر، فتشرب منذ صغره نتاج هؤلاء وكبر على وقع كتبهم، وزاد على ذلك أن والده كان قاصاً وله أربع عشرة قصة تاريخية... بالتالي من الطبيعي أن تتعزّز لدى الطفل يوسف حبشي الأشقر ملكة الكتابة التي ولدت معه، وتخوله في ما بعد حمل مشعل الرواية النابعة من عمق المجتمع اللبناني القروي والمديني، بكل أبعاده وتراثه وعاداته وتقاليده.

رسم يوسف حبشي الأشقر في نتاجه الأدبي الشخصية اللبنانية وجعلها تتكلم بلهجتها من دون أن يدخل عليها أي صناعة كتابية ولغوية، فيما حصر تدخله في البناء القصصي والروائي وابتكار عناصر لتماسك الأحداث والتسلسل الفكري، فكان فريداً في أدبه وأضحى مرجعاً لأي دارس يود التعمق في خصوصية المجتمع اللبناني في النصف الثاني من القرن العشرين، مع حفاظه على النكهة الأدبية ومن دون الدخول في التأريخ الاجتماعي...

Ad

في مدرسة القرية تلقى يوسف حبشي الأشقر دروسه الابتدائية، من ثم أكمل دراسته الثانوية والجامعية في بيروت، فالتحق بجامعة القديس يوسف وتخرج فيها حاملاً إجازتين في الحقوق والفلسفة. ليكسب عيشه بطريقة لائقة توظف في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وعمل بشكلٍ موازٍ في الكتابة.

حول توجهه إلى الكتابة الأدبية كتب: «الأسباب اللاّواعية التي جعلتني أختار القصّة ثم الرواية، القصّة للوصول إلى الرواية، هي أنّني تعوّدت القصّة في البيت. والدي إميل الأشقر كتب أربع عشْرة قصّة تاريخيّة، وكانت أوّل ما قرأت. رأيت أنّ القصّ يسمح لي أن أصنع ما أريد وكما أريد. القصّة تتناسب مع كسلي».

نتاج غني

عام 1952، أصدر مجموعته القصصية الأولى «طعم الرماد»، تلتها عام 1955 «ليل الشتاء» التي حازت «جائزة جمعيّة أهل القلم»، ثم «الأرض القديمة» (1962) التي حصدت بدورها جائزة «أصدقاء الكتاب»، وهي تتألف من أربع قصص: «راحيل، خطيب الضيعة، بو جرجي، أنطون»، تعكس عوالم الريف والشخصيات الريفية، والصراعات ذات الطابع الفردي البسيط والمبسَّط...

شكل عام 1964 محطة مهمة في مسيرة يوسف حبشي الأشقر الأدبية، إذ اتجه إلى الرواية، وأصدر باكورته في هذا الفن بعنوان «أربعة أفراس حمر»، وهي الجزء الأول من ثلاثيته: «لا تنبت جذور في السماء» (1971) و«الظل والصدى» (1989).

فور صدور طبعتها الأولى، أحدثت «لا تنبت جذور في السماء»، ضجة في الأوساط الأدبية اللبنانية والعربية واعتبرت عملاً فريداً ونموذجياً. يبحث أشخاص روايته هذه عن ذواتهم عند الله، مع الأحزاب، في الحب والمال والكتابة... وتختصر الرواية مرحلة بكاملها هي مرحلة الأسئلة السياسية والميتافيزيقية والاجتماعية التي عرفتها بيروت بين ستينيات القرن العشرين وسبعينياته.

الحرب اللبنانية

«بقينا قاعدين طويلاً، طويلاً، حتى عادت المدافع فأعادت الحزن إلى عيوننا وسرقت حجماً من ذاتنا. وبعد الحزن؟ قلت لي. بعد الحزن الذلّ، وليس بعد الذلّ شيء فهو سويّة الموت». هذا المقطع من مجموعته القصصية «المظلة والملك وهاجس الموت»، الصادرة عام 1980 وعاد فيها إلى كتابة القصة، يبرز بوضوح المعاناة التي عاشها يوسف حبشي الأشقر من جراء اندلاع الحرب في لبنان سنة 1975، وانكفائه في قريته بيت شباب، يراقب من بعيد أنهار الدماء والعبث بمقدرات الدولة والوطن والمجتمع من دون هوادة...

عام 1984، أصدر مجموعته القصصية «وجوه من الأرض القديمة»، عاد فيها إلى تلك «الأرض القديمة» ليرى ماذا بقي منها، وما الجديد الذي اقتحمها، وأمعن في تغيير النسيج الداخلي لحياتها القديمة، وجلب إليها نزاعات جديدة، تراها شخصياته القديمة غريبة عنها وغريبة عليها... وأتبعها بمجموعتي «آخر القدماء» و«خطيب الضيعة وقصص أخرى» في العام نفسه.

تضمّ المجموعة الأخيرة قصتين: «خطيب الضيعة وأبو جرجي» وقد سبق أن نشرتا في كتاب «الأرض القديمة»، ثم أعادت دار المكتبة الأهلية نشرهما على حدة.

عاش يوسف حبشي الأشقر سنواته الأخيرة رافضاً الحرب ومنتفضاً عليها، وعبر عن ذلك بوضوح في «الظل والصدى» (1989)، وهي روايته الأخيرة قبل أن يخطفه الموت سنة 1992 وهو في ذروة عطائه، تاركاً مؤلفات لا يزال تأثيرها كبيراً على الروائيين وعلى القراء في آن.

تندرج رواية «الظل والصدى» ضمن ثلاثيته التي تضمّ «أربعة أفراس حمر» و«لا تنبت جذور في السماء»، وهي شهادة على الحرب اللبنانية وغوص في أعماقها عبر شخصيات متوترة، قلقة ومضطربة، وتعتبر أحد أبرز الأعمال الروائية اللبنانية التي تطرقت إلى الحرب اللبنانية.

قضايا فكرية وفلسفية ونفسية

حول نتاج يوسف حبشي الأشقر كتب الأديب محمد دكروب: «في ثلاثيته الروائية: «أربعة أفراس حمر» (1964) ثم «لا تنبت جذور في السماء» (1971) و«الظل والصدى» (1989)... ندخل في حومة العوالم المدينية: احتدام القضايا الفكرية/ الفلسفية، والأزمات الروحية والنفسية... وصراع التيارات الفكرية/ الاجتماعية/ السياسية، والنزعات الوجودية، والتمزّقات الداخلية للفرد، وتصادمات الفرد مع التراكيب والمواصفات الاجتماعية والطبقية»...

أضاف: «الشخصيات الرئيسة، هنا، هي من المثقفين، كتّاباً وغير كتّاب، المتفاعلين أو المنفعلين بشكل أو بآخر، بالقضايا الفكرية الفلسفية والنفسية الكبرى للعصر، وتياراتها المتصارعة: الوجودية، القومية، الماركسية، الإيمانيّة المعاصرة (التي تؤرّق الأشقر، تحلّ فيه، تصارعه ويصارعها)، ثم الفوضوية، وحركات الشباب التي هي خليط حيوي مندفع ومتحمّس من هذه التيارات والأفكار كلّها».

تابع: «في إبداعه القصصي الروائي، يشتغل بشغف وتأنٍّ، في إشادة البنى الداخلية والظاهرة لكل عمل فني له. يمازج، في شغله الفني، بين ما يشبه العفوية والتدفق، وما يشبه الوعي التركيبي الصارم»...