لا شك في أن هذه "العزلة" المنتخبة بدأت مع مطلع المراهقة. لكن "البراءة" كانت قيادها، لا "الخبرة". كانت تدفعني إليها مشاعر أسى بالغ الشفافية، بالغ الغموض. فيما بعد تعرفت على هذا الأسى، الذي كان أولى بوادر القصيدة، وهي تعتمل في الداخل. هذا الأسى، بادرة القصيدة، مازال يصحبني حتى اليوم، لكنه معبأ بالخبرة هذه المرة، لا البراءة.

في العزلة تعتمل "الخبرة المبدعة"، الأنبياء، المبدعون في حقل الفكر والأدب، معتزلون كبار. لذلك، نتعرف على هذه "العزلة" في هذه الحقول، في حين نتعرف على "الوحدة" في حقل علم النفس، باعتبارها عرضا مرضيا. والمصطلحان في الإنكليزية: العزلة Solitude والوحدة Loneliness، يستقلان عن بعضهما بوضوح أكثر.

Ad

لا تبدو "الوحدة"، بهذا المعنى، خيارا شخصيا. إنه حكم يتسلط عليك بعامل داخلي حينا، وبعامل خارجي معظم الأحيان. أخشاها كما تخشاها أنت. وكما يخشاها كل إنسان، وكل حيوان ضمنا. إنها تُطفئ فيك الإحساس بالجماعة، وتُميت مذاقَ الجدوى من كل فعل، ومن كل فكر. وهي قادرة على أن تحلَّ محل "العزلة" المختارة عن غير إرادة منك، لكن إلى حين.

الرائع في الإنسان، المعزز بمناعة "العزلة" ضد لوثات "الوحدة"، قدرته على وعي ما حدث، فينحني لرياحها العاصفة حتى تمر، كما ينحني القصب الصبور.

أبرز عامل خارجي لمشاعر وحدتي (أو وحدتك)، التي تُقبل من غير استئذان، هو المنفى. أعرف ذلك وأعيه. المنفى الذي أعنيه هو اقتلاع للكائن، لا رحمة فيه، من تربة زمانه ومكانه، وإلقائه في تربة زمان ومكان لا عهد له بهما؛ حيوان في قفص، في حديقة حيوان.

في حياة المنفى هذه أسعى إلى التطامن مع قفص هذا الزمان والمكان. لكن في أحيان تبتلعُ هوة هذين البُعديْن الجوهريين للوجود على حين غرة، ولغير ما سبب ظاهر. هوة لا تُقاوم، تُطفئ بي الإحساس بالجدوى، كما قلت، وتُلقيني في هذه "الوحدة". هل هي "الشَرك" الذي عنيتُه في مقطع ختامي من إحدى قصائدي قبل سنوات عشرة:

".... وإذْ بكَ، لا عنْ إرادة

تقاومُ لحناً نشازاً بدأْ

على آلةٍ، لمْ تكن في الحسابْ.

تقاومُه، أوّلَ الأمرِ، عن رغبةٍ في العتابْ،

ولكنه يتفشّى بلون الوشاية بين صفوف المغنينَ والعازفينْ...!

وإذْ بك تدخلُ، لا عنْ يقينْ،

خيوطَ الشركْ

وتهلكُ، فيمنْ هلكْ!".

لكن قصائد المنفى تتزاحم فيها إشارات كهذه، لهوة هذا "الشرك" الذي لا مهرب منه إلا في استعادة "العزلة"، استعادة العافية.

ثمة عامل آخر لهذه "الوحدة"، غير "المنفى"، أتأمله في وسائل الاتصال الاجتماعي البالغة الإغواء والسطوة. إنه ضرب جديد من النفي، ذو قناع كقناع المهرج في السيرك، الذي تحتل ابتسامتُه نصفَه. الجميع يحتفي بابتسامة القناع، وما من أحد يرى الوجه الحي وراءَه. الوجه الحي منفيٌّ في وحدته. هذا ما يحدث لأحدنا داخل المتر المربع الواحد، أمام شاشة الكمبيوتر.

في حقل صداقاتنا العقلية والروحية والحسية نحتاج إلى الحوارات الحية، حين نلتقي ببعض، وإلى الرسائل الحية حين نغيب عن بعض. مخاطر الفيسبوك، كما تبدو لي ولك، قليلة العدد، لكنها عميقة الغور. شاشتُه ستحتل مكان مخيلتك، وجمهوره الكاسح افتراضياً (مئات من الأسماء الرقمية المجردة) سيحتلون الفراغ الذي تركه الأحياءُ من لحم ودم.

لذلك، يبدو لي أن الانشغال بالفيسبوك يورث حالة "الوحدة" (داخل متر مربع) المعبأة بالوحدة والإحساس بالمنفى. على خلاف "العزلة" المختارة، التي تنصرف للحوار الدائب مع النفس، ومع الكتاب، ومع الطبيعة، ثم مع الإنسان الخلاق الذي هو مثيلك، أو الصديق المنتخب، الذي تكتمل به.

لا شك في أن هناك عوامل أخرى تُسلم الكائن إلى حالة الوحدة هذه، حين تُطفأ فيه جذوة الفضول للمعرفة، وجذوة الحب، التي تتسع لحب ابن عربي الذي يدين بدين الحب، وحب أبي نواس الذي لا يرى حوله "إلا رياح حب تجول".