يمر الكثير مرور الكرام على أن "داعش" غيّر من مفهوم وخطط وإستراتيجيات التنظيمات الإرهابية المتعارف عليها في أدبيات الفكر الجهادي، وهذا ما يظهر في أطروحات وآراء عدة آخرها تلك التي ساوت بين "مرحلة ما بعد الموصل" و"مرحلة ما بعد داعش" والفارق بين هذا وذاك كبير، ومخاطر المساواة في ذلك عدة، أهمها وهم الشعوب لاسيما الشعب العراقي بأن "داعش" قد انتهى.

هل انتهى تنظيم "داعش" فعلياً؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه بمعزل عن الوقوف على أبرز التغيرات التي أحدثها هذا التنظيم من ملامح التنظيمات الإرهابية، بداية من نشأة التنظيم وسرعة إعلانه الخلافة، وصولاً إلى ما وصل إليه التنظيم حالياً من خسائر وفقدان لمناطق نفوذه في العراق وسورية.

Ad

ولعل أبرز تلك التغيرات يتمثل في وزن القيادة داخل تنظيم داعش، فالزعيم الداعشي "المهمش" ما هو إلا شخص مجهول الهوية لنشاطه العملي والعلمي، شخص بدء ذكره كخليفة ليس كأسلافه في التنظيمات المتطرفة الذين تحفل سيرهم بالعديد من العمليات الدموية، كما تنشر لهم العديد من التنظيرات والآراء الفقهية، أضف إلى ذلك عدم ظهور "البغدادي" سوى مرة واحدة وبقية الأخبار المتناثرة حول ذلك ما هي سوى شائعات، ناهيك أيضاً عن أنه منذ فترة طويلة تظهر أخبار من وقت لآخر تفيد بمقتل زعيم التنظيم "أبوبكر البغدادي" بواقع "8" مرات أو إعلان إصابته في مرات عدة، إلا أنه لم يخرج تنظيم "داعش" بيان يرد فيه على تلك الإشاعات سوى مرة واحدة عام 2014، هذه الشواهد وإن كانت لا تعني انعدام وزن القيادة في داعش، فإنها تفيد أن ثقل القيادة داخل التنظيم ضعيف للغاية.

التغيير الثاني والأهم يتمثل في الولايات ومدى إحكام القيادة المركزية السيطرة عليها، فكثيراً ما ينظر إلى الولايات وإعلان تنظيمات محلية في دولة ما ولاءها لتنظيم داعش على أنه أمر إيجابي مطلق، إلا أن الواقع يشير إلى أن سلبيات تلك الولايات أكبر بكثير من إيجابياتها، لاسيما إذا كانت تنظيمات سريعة النشأة، حيث إن التنظيمات المحلية أو الفروع أو الولايات ما إن تعلن ولاءها للتنظيم الأم فإنها تخلق نوعاً من أنواع الصدام بينها وبين التنظيمات الأخرى غير الموالية للتنظيم، ومن ثم يتحول الصراع مع الوقت من صدام بين تنظيمات فرعية (ولايات) وتنظيمات غير موالية، إلى صراع بين التنظيم الأم والتنظيمات المعارضة له، كما حدث في ولاية هلمند ببلاد الأفغان.

ومن ثم فكثرة الولايات أو التنظيمات المحلية الموالية من شأنها خلق أعداء جدد تدفع إلى الانشغال بها أكثر من الانشغال بمحاربة العدو الرئيسي للتنظيم الأم، مما يضعف التنظيم، والواقع يشير إلى أن تنظيم "داعش" أدرك تلك المشكلة شيئاً ما، فأخرجت مؤسسة الفرقان بياناً عبّر عن قدرة التنظيم على تدارك أخطائه والتعامل مع التوسع، حيث حدثت تعديلات هيكلية جذرية في بنيته التنظيمية شملت إلغاء منصب نائب الزعيم " أبو عبدالله البغدادي"، وتشكيل اللجنة المفوضة كثالث منصب في التنظيم بعد الخليفة ومجلس الشورى، بهدف الإشراف على الولايات الفرعية والإشراف على الوزارات أو الدواوين، مما يفيد أن التنظيم سعى لإحكام سيطرته على الولايات والفروع، بهدف تقليل فرص الانشقاقات من قبل الفروع أو تمردها.

التغيير الأول يفيد بأن "داعش" لا يعرف على مدار تاريخه منذ بدايات توسعه ثقلاً للقيادة، وتفسيرات هذا لا تصب نهاية في خطة موضوعة من قبل التنظيم، وإنما تعبر بصورة رئيسية عن سرعة إعلان الخلافة والتي تفرض عليه من البداية قبول هذا الوضع، أما التغيير الثاني فجزء من الأول، بمعنى أنه جراء شعور التنظيم بضعف سيطرته على الفروع التابعة له -والتي تسارعت في إعلان مبايعتها له لظروف وملابسات المنطقة التي تحرك منها – فإن هذا التنظيم توجه إلى محاولة إعادة الهيكلة، غير أن هذا واقعياً لم يثمر ولم تتوحد جهود الولايات والتنظيم الأم في تحديد عدو أو رسم خريطة يعمل في إطارها، كتلك التي رسمت في تاريخ تنظيم القاعدة، واستفادة التنظيم من هذه الفروع لم تخرج عن مجرد إخراج إصدارات إعلامية للتنظيم الأم ودعم مادي للفروع والتنظيمات المبايعة ليس إلا، وإذا ما قارنت العلاقة بين الفروع والقيادة المركزية في تنظيم القاعدة فستجد على سبيل المثال أن "تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية" كانت عملياته مركزة ضد الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها "العدو الرئيسي للتنظيم".

خلاصة الأمر أننا في قراءتنا لتاريخ التنظيمات الإرهابية نستطيع أن نقول "قاعدة بن لادن، وبغدادي داعش" بمعنى أن تنظيم القاعدة مرتبط منذ البداية بتحركات وإستراتيجيات قيادات ذات ثقل عملياتي وتنظيري وتنظيمي نجحت في إخراج تنظيم متماسك، أما الوضع بالنسبة لداعش كما أشرنا فمختلف لا ثقل للقيادة فيه، وكذلك لا إحكام للسيطرة على الولايات والفروع، ومن ثم فغطاء داعش وإن انتهى في العراق والشام فإنه يشير فقط إلى تغير المسمى الذي تجمعت حوله تلك الفروع والولايات، ولا يعني مطلقاً انتهاء العمليات الإرهابية أو ضعف الولايات التابعة له، او استقرار الوضع في المنطقة، فلا فائدة كبرى من مقتل البغدادي - إن تأكد صحته- وكذلك لا فائدة كبرى من إعلان إنهاء التنظيم المسمى "داعش"، القضاء على داعش نهائياً بالصورة المطلوبة يتمثل في مواجهة الفروع والولايات لا التركيز فقط على القيادة المركزية.

* كاتب وباحث سياسي متخصص في شؤون الإسلام السياسي