"الزمن الجميل"... عبارة تتردد كثيراً في أيامنا هذه على لسان الأجيال، قديمها وجديدها، فما السر في هذه العبارة؟

لا شك أن الجيل القديم علاقته بها قوية، فهي جزء من حياته وإبداعه الإنساني، وهو على قناعة بأنه حقق الكثير مما جعله يرددها، وأحيانا يتطرق إلى ذكرها بحسرة وأمنية لو عاد منها فقط ما يخرجه من مزدريات الزمن الذي بات فيه غريبا، يرى كل ما حوله يتبدل ويخرج عن السيطرة التي حكمت وضبطت مقومات الحياة في ذاك الزمن الجميل، بدءاً من السلوك والعلاقات الاجتماعية، ومروراً بالفن والأدب والخروج عن كل ما ترسخ في بوتقة الروح من فضائل جعلت منه زمناً جميلاً، كما تصوره، واستقر في وجدانه.

Ad

لا نبالغ حين نقول إن الزمن الحالي مس في جوهره الكثير مما لا يتوافق مع طبيعة وعقيدة العربي الذي كان يجد حلاً لمشاكله في التمسك بقيمه وفضائله التي توارثها عبر الزمن وهذبتها الرسالات السماوية التي هبطت على أرضه؛ فهل كل الجديد سيئ إلى هذا الحد الذي يجعل الكثيرين، ومنهم أبناء هذا الزمن، يتحسرون على الماضي الذي أطلقوا عليه "الزمن الجميل"؟

عبر الزمن كانت هناك دائماً فترات مميزة يرتاح الناس لذكرها ويتفكرون فيما تحتويه من دروس وعـِبـَر، كما أن هناك فترات كئيبة تنفر من ذكرها النفس ولا تشتاق إليها، ولعل عبارة "الزمن الجميل" جاءت من هنا، أي من المقارنة بين ما هو مفرح ومفيد وطيب، وما هو عكس ذلك، مما يمس العلاقات الإنسانية ويقف في طريق إبداعها.

الماضي بمعناه المطلق هو كل ما قبل اللحظة التي نعيشها حاليا، وقد انفصلنا عنه منذ وقت قريب حين أطلقنا الساقين ركضاً نطرق باب "العالم... القرية صغيرة" وتشابكنا مع الآخرين في كل بقاع الأرض بمجرد لمسة زر صغير في جهاز وصل حجمه إلى حجم ساعة اليد أو أصغر... فهل كل الماضي كان جميلاً حقاً؟!

ربما يفرض علينا هذا السؤال ألا نكون على الحياد بين الماضي الجميل، كما يصفه الكثيرون، والحاضر الذي يتعذر اللحاق به، فليس كل ما في الماضي جميلاً! ذلك أننا ورثنا بعض العادات والتقاليد والمفاهيم الخاطئة التي لا يمكن التعايش معها اليوم، ومع ذلك يصر الكثيرون على التمسك بها عنادا وغطرسة، مما جـَـرَّ علينا الكثير من المآسي وفتح الباب أمام المتطفلين والمتسلقين ليلجوا من أوسعه بذريعة تصحيح الخلل في ذلك الجميل المظنون!

ما عاد العقل يُسلِّم بالموروث الخطأ، ذلك أن عصا الطاعة العمياء قد تكسرت وما عادت تخيف أبناء الجيل الجديد الذي انفتحت أمامه أبواب المعرفة من كل جانب وعرف طريقه إلى حرية التفكير والإبداع دون رقيب حين بدأ مشواره مع العالم الافتراضي الذي بات مشاعاً لكل من ملك قدرة على التعامل معه.

الذين عرفوا كيف يوظفون الموروث هم الذين استفادوا من جميل الزمن الماضي وتمسكوا به وصبغوا ما توارثوه من جمال ومعرفة في فروع الحياة من فنون وأدب وثقافة وسلوك اجتماعي وغيرها على حاضرهم.

هذا ما يمكن أن نسميه إحياء للتراث وقيمه الجميلة، النهل من "الزمن الجميل" والتغني به، والذي هو من المقومات التي اعتمدتها الحضارات السالفة، كما كان في عصر النهضة الأوروبية التي أحيت تراثها وبعثت فيه روح التجديد.

لا يمكننا أن نستخف بكل القديم، ولا يمكننا أن ننفصل عن الجديد، لأن في كليهما جمالاً وفائدة وأصالة، تمثل جزءاً منا ونحن جزء منها.